ادب وفن

الشعر لا يعني فقط الإمساك بالقضايا المثيرة للانتباه / قيس مجيد المولى

استعرض أدغار ألن بو مفاهيمَهُ في تعريفهِ للشعر من خلال محاضرتهِ التي ألقاها في مدينة رتشموند عام 1849 وقد أصبحت هذه المحاضرة فيما بعد ما عرف بالمبادئ الشعرية لمفهوم الشعر.
ففي أول هذه المبادئ يرى بو إن غايةَ الشعر هي السُّمو بالروح ويعني ذلك أن بو قد دعا ضمناً إلى التحرر من أي شكل من أشكال الرضا والفائدة والعقلية التي تسود الذهن لأن تحررَه هذا أثيرياً لا يُحد بغايات من أجلِ إثبات القدرات الوضعية والتي يشترك جل البشر في التحكم والسيطرة على هذه القدرات، كما إن هذا السمو لديه لا يعني من جهة أخرى الإمساك بالقضايا الجوهرية والقضايا المثيرة للانتباه كي يكون رائقاً ومعلوما ومؤشراً لحاجاته، بل إن هذا السمو ومن خلال تحليلنا العديد من قصائد بو ليس مطلبا ضمن سياق التحول التدريجي والذي تبتدعه الذات الشعرية لتنظيم محتوياتها للظفر بالسلوك الشعري المنفلت بل رآه بو بأنه تلك القدرة الشفافة غير المرئية القادرة على رفع روح الإنسان بكل أحمالها وماضيها ومكوناتها الإضافية إلى درجةٍ ما من السمو وهذه القدرة تستند أساساً على مساراتٍ من الوحدة والعزلة التي تلج المديات الشعرية للشاعر، أي أن عملية التنظيم لا تأتي مسبقة أو مسبوقةً بمجموعة من الأفعال الإراديةِ والتي غرضها تصفيف مجموعة من الافتراضات لُيبنى عليها مدخلا للوهم لإيهام النفس بتقبل نسخ إضافية غير حقيقية من الحزن المصطنع، فالفائدة هنا ليست بالشعرية ولن تكون سوى وسائل إيضاحية للهم الحقيقي والذي هو بحاجةٍ إلى الحدود المعلومة من الاكتشافات الإضافية لــ لحظةٍ مطلوبة لتثوير ذلك الهم وإيقاظ ما يحتوي من اللحظات الشعرية، إذ أن ليس باستطاعة الشاعر إظهار الأشياء المطلوبة أو التقاطها متى يُريد وليس باستطاعتهِ أيضاً إذا لم يمسك بتلك اللحظة إحضار صوره المُخزّنة في اللاوعي لان الشعر ليس بالعملية الاستذكارية أو عملية إحلال للبدائل وفق الاعتقاد المسبق بصلاحية أو عدم صلاحية ما سوف يتم اختياره، أما في مبدئه الثانيَ فإن بو يميل إلى استخدام القصيدة القصيرة وعدم إطالتها حيث نرى ضمن هذا المبدأ إنه يعني بذلك عدم الضغط الإجباري على الذات الشعرية من أجل الإطالة. الإطالة غير الضرورية وغير المناسِبَة وهنا ولربما يشير بو إلى الاحتكام إلى القصيدة القصيرة ذات المغزى الشمولي المستوفية كافة بياناتها اللغوية والمعبرة عن مضمون أعلى وحالات نادرة في اختيار الاستخدامات المتنوعة وهو يدعو إلى أن لا تكون هذه الدعوة دعوة القصيدة القصيرة بمثابة قانون صارم وملزم ومحاولة لكبحٍ جنوحِ العاطفة إذ أنه يعود ويرى إن الإجبار والإلزامية في استخدام القصيدة القصيرة يجعلها مجرد صورة معزولة أو قول مأثور وهذا يؤدي بدوره وحسب ما يشير بو إلى إلغاء التوهج وبالتالي إلغاء الإضاءات السحرية والتراجع أو النكوص النهائي في مهمات اللغة ، كما يرى بو في مبدئه الثالث من مبادئه في مفهوم الشعر إن وظيفة الشعر وظيفة جمالية أي أنها عملية خلق وإعادة وتنظيم لكافة الموجودات بما في ذلك القبيحة منها وتقديمها بغير شكلها المألوف والمعتاد لإثارة أكثر من حاسة لدى المتلقي وتصعيد وتيرة العاطفة لدى طرفي العملية الشعرية من أجل غاياتها القصوى في الوصول إلى اكتشاف المكتشف وهذه الوظيفة بحد ذاتها تختلف اختلافا جوهرياً عن الوظيفة الحقيقة التي تتعامل مع المدرك والبراهين وتغيّب الأفعال النفسية المنتجة ، لذا فإنَ بو يرى إن هناك نقيضين في محاولة إيجاد أية علاقة بينهما ومحاولة إيجاد مثل هذه العلاقة يعني إضاعة المرتكز الجمالي من ناحية وطمس الحقائق من ناحية أخرى، كذلك ينبهُ بو ضمن تلك المبادئ الى استحالة تطبيق المعيار الأخلاقي للحكم على المنجز الشعري وهذا يعني لديه وحسب ما نراهُ أن للمعيار الأخلاقي وضعية مرحلية وثوابته ليست على اتزان نهائي وهذا المعيار يهتمُ بجوهر الشكليات وليس الجوهر نفسه كما لا يمكن أن يحكم على الشعر ضمن المدركات العقلية لأن الذهنية تركز على العينات وتركز على الثوابت في التجريب ، فالشعر إحساسٌ يتولد من لحظةِ اكتشاف عبر مدياته التذوقية التي يختصر بها أبعاد الزمن الثلاث ولا يخدم ظرفا ما أو قضية ما أو يكون جميلا مع الجميل وقبيحا مع القبح. إن بو عندما وضع مبادئهُ تلك فإنه لم يعزل نفسهُ عنها في مجمل قصائده التي كتبها وهي التي أمدت حياته الشخصية التي عاشها بما يحتاج إليه من مفردات الحزن والألم واليأس من موت والديهِ ثم شقيقيه ثم زوجته وفشله في الزواج من إليمار روستر، ورغم ذلك فإن بو لم يطرق أبواب الخيبة والوحدة وانقطاع الأمل طرقا مباشراً لكنه توج هذا الألم النفسي في ملحمته "الغراب" والتي تواصلت معها في هذا الاتجاه معظم قصائده التي كتبها للتعبير عن همومه كما ظهر في "أشباح الموتى" و"حلم في حلم".
ولكشف أغوار ذلك الكائن وللتطبيق على ما ذكرنا فهو في قصيدته الغُراب يقدم نتائج خرابهُ الإنساني فيقول:
ذات مرة في منتصف ليلٍ موحش
فجأة هناك جاءَ دَق
بلا اسمٍ هُنا ويدور
التمستُ لأنشدَ من كُتبي
إنني بالكاد كنتُ واثقاً
من اتساع باب غرفتي
طويلا وقفتُ هناك
ظلامٌ هناك ولا غيره
اتفقت معه
بعدم وجود كائن إنساني
على قيد الحياة
عجبتُ لهذا الطير الأخرق
كيف يستمعُ لهذا الحديث بلباقة..
لقد أخذت المرأةُ والحب كما هيَّ القصص البوليسية جل اهتماماته وإذ كانت "تفتيشاته السرية" وكشفهُ الألغاز قد أغنت شبابيك هوليود فيما بعد بالملايين من الدولارات فقد ظلت المرأة في حياته شكلا غير مرئي رغم تقديسه هذا الأمر في تنظيراته الشعرية، ورغم أن الكثير من النقاد يرى بأن أدغار ألن بو لم يمد يده إلى هذين الموضوعين بل على العكس نرى بأنهما كانا جل اهتماماته وإنه تناولهما من منظاري اليأس والشعور باللا جدية التي يمكن أن تمس نظام حياته ويبدو وكأنهُ اختار الشكل المناسب لمناجاة المرأة والشكل الأكثر تأثيراً في التعبير عن الحب:
روحك سوف تلقي نفسها وحيدة
من كل ما على الأرض
ومجهولة العلة
لكن لا أحد قريب
ليحدق نحو تكتم ساعتك
……
……
خذي هذه القبلة على جبينك
ولأننا سنفترق
دعيني أعترف لك بهذا
لا لم تُخطئي حين اعتقدتِ
إن أيامي كانت حلماً
اظلُ وسط مكاسر الموج
عبر أصابعي
في الهاوية..