ادب وفن

الومضة الشعرية في نصوص "ألوّح بقلب أبيض" / داود سلمان الشويلي

"نحنُ نجدّد في الشعر، لا لأنّنا قرّرنا أن نجدّد، نحنُ نجدّد لأنَّ الحياةَ بدأت تتجدّد فينا، أو قُل تجدّدنا".
يوسف الخال
لم يعد الشاعر الحديث يحفل بالخطابية في شعره كما في الكثير من شعرنا في هذا الزمان، بل ذهب إلى الإيحاء، والتركيز، والقصر، لأن قصيدته وليدة العصر المتغير والسريع في أحداثه الساخنة، والتي لم تعد تسمح له بأن يكتب قصيدة طويلة يضطر في الكثير من الاحيان الى حشوها بألفاظ تتسم بالخطابية، فراح يكثف قصيدته، ليوحي بها، حتى وصل ببنائها الى ان يكون بناء "بخيلا" الا انه ممتلئ بالمعاني والدلالات،
انها التعبير الصحيح عن روح العصر التي رافقته التحولات الفكرية والفنية .
وقد استطاع الشعر العربي الحديث اثناء تطوره، وبسبب تغير ذائقة المتلقي لتغير ذوقه في عصرنا الحالي، الى ان يتجه نحو القصيدة القصيرة جدا، أي نحو التكثيف والتركيز، ومن ثم الايحاء. إذ اصبحت القصيدة تعبيراً عن لحظة انفعالية، وصارت شديدة الشبه بالتوقيعات التي كان يكتبها الخلفاء في زمن الخلافة الاسلامية، لتكثيفها، وتركيزها، وإيجازها، وهي تحمل معنى كبيرا، ودلالة واسعة توحي بها. والتوقيعة التي بدأ بعض الشعراء كتابتها منذ سبعينيات القرن الماضي، هي القصيدة القصيرة المكثفة جداً. وهي صورة من صور البرق الخاطف، حيث تقترب من "الدارمي" في الشعر العامي العراقي الذي يكثف الدلالة والمعنى في بيت واحد يعد الضربة النهائية لقول الشعر، وكذلك من "الهايكو" الياباني الذي من ضمن ما يتميز به هو صفاء الصورة التي توصل المعنى، الا انها تفترق عنه في ان له شروطه التي تحدثت عنها في دراسة نشرت على موقع الحوار المتمدن، انها الانتقال من الخطابية التي رافقت الشعر العربي طيلة عمره الى الايحائية التي تصل حد ان تكون بلا صوت يسمع .
والحديث عن الومضة، أو التوقيعة، هو حديث عن البلاغة الشعرية الجديدة، التي تتصف بتقنية الإيحاء، و الانزياح، والتكثيف، والايجاز.
ويتطلب هذا الشعر ذو اللحظة الانفعالية، والدفقة الشعورية، ذكاءً نافذا من الشاعر، ونباهة عالية من المتلقي، او القارئ، لأن القصيدة المدونة مبنية على صورة واحدة تحمل فكرة واحدة، وانطباعاً واحدا بتكثيف شديد لا يخل ببنيتها الشعرية البلاغية الا انها تفتح افاقا واسعة في المعاني والمدلولات.
وقصيدة الومضة، أو التوقيعة، تحدث عند متلقيها، قارئا او سامعا، فجوة توتر شعري، وهي سمة شعرية تصاحب القصيدة الناضجة، هذه السمة يمكن من خلال قارئ نوعي حصيف للشعر ان تولد عنده سمة اخرى ومهمة هي سمة الانفجارية، ان كانت تلك الانفجارية في الايحاء، او التأمل، او الدلالة، انها حالة الدهشة المتولدة من ذلك الانفجار، ومن ثم تنتج متعة القراءة او السماع، فيتم التبادل المبدع والمثمر بين الشاعر ومتلقيه.
وما يميز قصيدة الومضة الخيال المتأجج،، والنأي عن الزيادات والحشو الذي لا طائل شعريا منه، و التركيز على الجمل القصيرة ذات الكثافة العالية، و المفاجأة التي ترافقها الدهشة، والوحدة العضوية القادرة على ايصال المعنى.
ان الومضة الشعرية هذه، أو التوقيعة، لا تنهض في الشعر الا على الرؤية، والرؤية البنيوية، حيث يختار الشاعر لغة تنسجم في مستواها الدلالي والرؤيوي التي يقدمها في ومضته أو توقيعته .
ان رؤى الشاعر ولغته يتضافران في خلق حالة من التضاد المفضي الى حيوية الصورة الشعرية.
ومن المعروف ان الكتابة النثرية تتصف بانها كتابة تميل الى التمدد، والاسترسال، والاسهاب، فيما الكتابة الشعرية تتصف بكونها كتابة مكثفة في اللغة والصور الشعرية، دون ان يخل التكثيف بوضوحها النهائي.
فاللغة الشعرية تكون مكثفة، مقتصدة، ومفرداتها منتقاة من قاموس شعري خاص بالشاعر، انها لغة اقتصادية، غير متمددة، او مسترسلة، ولا مسهبة كلغة النثر، انها موحية غير مشتتة.
انها لغة اقتصادية وكأنها تخشى على نفسها من التبدد المفضي الى الذوبان، والاسهاب الذي يصل حد الاسهال المرضي، فتبدو هذه اللغة بخيلة، شحيحة، الا انها غنية بالمعاني والدلالات المتولدة بإنثيالات ابداعية موحية .
يقول الشاعر في احدى قصائده:
"كلما وثقنا بالليل
فقدنا عري النهار".
يمكن ان نتحدث عن الليل بما شئنا من الصفات الجيدة او السيئة، الواقعية او الشاعرية، وفي اية مرحلة من مراحله العديدة، وكذلك النهار وعريه البادي للعيان، الا ان الومضة الشعرية التي تناولت هذا الليل وهذا النهار المكشوف، لا تتحمل التفاصيل التي ستقدمها اللغة القاموسية والنثرية بإسهابها في الشرح والتفصيل .
وكذلك هي لغة غير متمددة، والمتجاوزة على الفاظ القاموس المعجمي لغير الشاعر . يقول الشاعر في قصيدة اخرى له:
"كلما اثخننا التأخر
اسعفنا الرحيل"
نتساءل : لماذا التأخر؟ ولماذا هذا الإثخان فيه؟
فالتأخر له اسبابه، وكذلك الإثخان لهذا التأخر، الا ان الومضة تركت للمتلقي معرفة الاسباب لكلا الإثخان والتأخر، وفي هذا شاعرية، وشعرية التجاوب بين الشاعر والمتلقي، حيث يتبادل الاثنان الاماكن في التأليف، والفهم، والادراك.
اللغة في هذا الامر تسكت عن ذلك، ولا تقول شيئا، كي لا تتمدد اكثر من اللزوم، فتتبدد، عندها تفقد الصورة شاعريتها، وتتحول الى ما يشبه القطعة النثرية الجامدة.
وهي مكثفة غير مسترسلة كذلك، ذلك لان الاسترسال عدو الشعر وقاتله، وهو من صفات الجملة النثرية، وليس من صفات الجملة الشعرية التي تجعل ذهنية وذاكرة المتلقي في حراك وعراك دائم للوصول الى معاني ودلالات ما يسمعه.
يقول الشاعر في ومضة شعرية :
"بين عشب التردد
نما غصن القرار".
فالشاعر حاله حال شاعر قصيدة التفعيلة، أو العمودية، يستطيع الاسترسال في قوله عن "عشب التردد" و"غصن القرار"، الا انه وهو يكتب ومضة شعرية، كالومضات الفيزيائية، البرق مثلا، يجد ان المعنى قد اكتمل دون أي استرسال في اللغة، لان المعنى ودلالات هذا المعنى في هذه الومضة سيقع الوصول إليه على عاتق المتلقي القارئ او السامع لها، فيكون عند ذلك التجاوب بين الشاعر ومتلقيه، فتحدث آصرة التعاون بينهما، فكان ان حدث التوتر المصاحب لشعرية قصيدة الومضة .
انها تكثف العبارة، وتعمق المعنى، فتثير عند المتلقي والقارئ الدهشة التي تنتج التعاطف الوجداني والفكري، هذه الدهشة المصاحبة لانثيالات عديدة بالصور الشعرية العديدة، والمتنوعة، والمختلفة .
***
الصورة الشعرية هي مركزية القول الشعري الذي ترسمه الكلمات كما يقول الشاعر نزار قباني .
والصورة الشعرية في قصائد هذه المجموعة، تتصف بكونها صورة واحدة، تقدم فكرة واحدة مكثفة، الا انها نابضة بالحياة الواسعة، تعطي دلالات ومعان واسعة و عديدة عند المتلقي، القارئ او السامع.
انها ذات اشعاع قوي تولد في المتلقي إثارة مفاجئة في لا شعوره . إنها لحظة برق ضوئي يكشف جزئيات ما تحمله .
***
ان اغلب قصائد المجموعة تعتمد الجملة الشرطية بدون اداة الشرط، إذ ان الجملة الشرطية هي : جملة مركّبة تشتمل على جملتين متلازمتين لا يتمّ معنى الأولى إلاّ بالثّانية، وتسمّى الأولى "جملة الشرط"، والثانية "جواب الشرط".
يقول الشاعر في احدى ومضاته:
"اوقف صوت صفيرك
سأوقف زحفي اليك
يأسا".
ويقول في اخرى :
"كلما خذلتنا الريح
نهادن سيولا يائسة".
وقد اعتمد الشاعر في بناء اغلب ومضاته الشعرية على هذه التقنية التي تتيح له المفاجأة، والدهشة، والوحدة العضوية، والصورة الشعرية المرسومة بلغة مقتصدة غير مسهبة ولا فضفاضة .
***
ان المجموعة الشعرية "الوّح بقلب أبيض" للشاعر يقظان الحسيني، جاءت لتلبي طموح الشاعر في قول ما يريد قوله بأقصر الطرق، وكذلك لتثري المكتبة الشعرية بقصائد الومضة التي بدأت تتسيد المشهد الشعري في العراق لما لزماننا من تأثير كبير على ذائقة الشاعر والمتلقي .