ادب وفن

"كوميديا العالم السفلي" الدوال المكانية والزمانية / احمد عواد الخزاعي

اللغة هي من أهم وسائل التواصل الإنساني، وإحدى المدركات الحسية القادرة على خلق حالة من الانسجام النفسي والمادي بين البشر، وهي جزء لا يتجزأ من نمطية التطور الفكري والمادي، فهي قابلة للتطور والتكيف مع تطور الإنسان، ولغتنا العربية تعد احدى أكثر اللغات إثراء وغنى بالمفردات والتراكيب، وأوسعها افقأ في التعاطي مع المعنى للمفردة الواحدة ، وهذا الغنى قد ولد هاجسا لدى سيبويه وخوفه من أن ينتج عن هذا التمدد اللغوي الفضفاض خلق تراكيب ومفردات وجمل جديدة ، يصعب التعامل معها من حيث الصرف والإعراب وتفسير المعنى الحرفي بشكل دقيق.
لذلك نجد أن أهم مظاهر تطور الأدب العربي في العقود السبعة الأخيرة هو تطور اللغة لديه وتحولها إلى وسيلة لإيصال أفكار وأحاسيس وتصورات الإنسان العربي المعاصر ، بعد أن كانت غاية، فنجد معظم ما كتب قبل هذه المرحلة على مستوى النثر بدءا بالمقامات إلى المقال وانتهاء بالسرد القصصي والروائي كان الاهتمام منصب فيه على اللغة بصورة متجردة وبمعزل عن فحوى النص وفكرته، ونجد الكاتب يكون جل اهتمامه هو كيفية إبراز هذه اللغة بصورة جميلة وفي حالة اتساق مع ما كان شائعا آنذاك، فيلجا إلى المحسنات اللفظية والبديع والجناس والسجع واختيار تراكيب لفظية تعاني جمودا حسيا، وهذا ما عانى منه السرد العربي في تلك المرحلة والسرد العراقي بوجه خاص كونه كان متلقيا نهما لما يصدر عن المنظومة الأدبية العربية وبالأخص ما يأتي من سوريا ومصر. فتأثر بهذه السياق المعرفي الجديد وتناوله بشيء من التبعية والرتابة.
ولم يستطع السرد العراقي التخلص من هذه المعضلة إلا في نهايات الأربعينيات من القرن الماضي، بعد أن بدأ يستلهم فنون السرد من منابعها الأصلية وتأثر بما ترجم وما وصل إليه من الأدب الغربي بشقيه الواقعي الروسي والرومانسي الفرنسي والانكليزي، فكان لهذا الاحتكاك المباشر أثره في اللغة وتطورها وانسجامها مع تشابك مشاكل الإنسان المعاصر وتعقيدها.
ومن هذا المنطلق أود أن أسلط الضوء على تجربة القاص عبد الكريم الساعدي في مجموعته القصصية "كوميديا العالم السفلي" التي احتوت على خمس عشرة قصة قصيرة، حاول فيها القاص ان يرسخ مفهومي الزمان والمكان والقفز على النمطية الكلاسيكية في السرد القصصي، مستعينا بأسلوب حكائي جعل من اللغة التي اقتربت من القصيدة النثرية في الكثير من المحطات، أداته في إيصال ما يريد إيصاله إلى المتلقي عبر انتقالات لغوية متنوعة تحمل دلالات نفسية غاية في العمق والتعقيد، وتنم عن نضوج معرفي وثقافي تمتع بهما القاص واستطاع من خلالهما الولوج إلى أدق تفاصيل النفس الإنسانية، في جميع حالاتها الحزن والفرح الخوف والطمأنينة واليأس والأمل واللامبالاة والدهشة.
* "الولادة": عمد القاص على استخدام تراكيب لغوية تقفز على المألوف لتصوير لحظة الولادة، تلك الرحلة الخطرة التي تقود إلى المجهول، لحظة الانسلاخ من العدم إلى الوجود .."كنت وحدي حين هبطت من ذلك الشاهق، أراوغ غيبتي وانتظر"، ويستمر القاص في تصوير هذه المشهد الدراماتيكي بنوع من الدهشة والترقب .."دثار من أطياف الذر يلتف حولي، يوقع عهدا بنفحة بيضاء، يمسح غبار العتمة عن وجهي، أتلو بنوده فأتوهج بشهقة تكويني"، لوحة سريالية يحاول القاص فك رموزها، وجدلية فلسفية فيستوقفنا عند بعض مفاصلها وأسئلتها المهمة والمبهمة، إنها جدلية الوجود، ماهيته، هل هو فعل إرادة أم فعل خضوع وانقياد؟ ليختمها بصرخة رفض تضيع في صخب الحياة .."أطلق صرختي في المدى، لكنها تضيع وسط موجة من الهلاهل ملأت الفضاء".
* "كوميديا العالم السفلي": نص استخدم فيه القاص تقنية التضاد اللفظي في سياق الجملة الواحدة، وهو الاستعانة بصفة تقف إلى الضد من الموصوف، أي وصف الاشياء بصفات متناقضة مع حقيقتها، أو استخدام مفردتين ذات معنيين متعاكسين، وهذا دال على الحالة السيكولوجية المأزومة التي يعيشها البطل، ويبدو هذا واضحا من خلال عنوان القصة المستمد من عمق التاريخ وأساطيره. العالم السفلي ورمزية الرعب التي يشير إليها هذا المكان، ليربط هذه العبارة بالكوميديا بدلالاتها النفسية والسلوكية التي تشير الى الفرح والسرور، في مقاربة مع كوميديا دانتي وتناقضاتها، تصوير غاية في التعقيد لحالة الإنسان العراقي البسيط في ظل سطوة النظام السابق .."أرى أشلاء القتلى تطوف حول ظل لوحاته، تنز بين ثناياها قوافل قطيع الأحلام، يشيعها عويل من نساء محنيات بالوحل، مكحلات بالدمع".
* "سروال داخلي": قصة تتناول الزمن في اللغة، استخدام تقنية الاسترجاع والاستذكار، والوقوف عند زمن ميت، عبر مشهد بانورامي تتداخل فيه الصور والرؤى والأزمنة في المسافة الفاصلة بين نصب الحرية وجدارية فائق حسن، يتداخل فيه الماضي مع الحاضر والمستقبل ولحظة انتظار يعيشها البطل عبر هذه الأزمنة المتشابكة املا في ان يلتحق به "سعده" الذي يفتقده منذ الولادة، وتاه عنه في خنادق الحروب .."الوقت عصر، اقتفي خطوات الأمس فرحا، اتبع اثري، أتوق إلى ملامح تهلل باللقاء اشتياقا، اجتاز محطات ترجلت عندها أسماء وطقوس، ألملم ذاكرتي".. ثم ينتقل السرد إلى حوار بين البطل وبين أناس مفترضون عن أحلام مؤجلة أحلام طال انتظار تحقيقها، في مجتمع سحقه الخوف والظلم والاستبداد، وهنا يصور القاص لحظة الدهشة التي عاشتها الجماهير وهي تعيش زمن الخيبة.
* "غبار القصائد": ثيمة غرائبية يتناول فيها القاص قامة من قامات الشعر العربي عبر مر التاريخ، وهو الشاعر أبو الطيب المتنبي، ليزجه في مزاوجة تاريخية اختلط فيها عنصرا الزمان والمكان وتداخلا، في عملية استحضار لها دلالاتها ورمزيتها ، حين يلتقي السارد مع هذا الشاعر في شارع الرشيد، وتعرض الأخير إلى مفارقات ناجمة عن تأثير الزمن في السلوك الإنساني وتعاطي مع الآخر، لينتهي هذا اللقاء العابر بأن يقرر المتنبي العودة الى زمنه لكنه أراد من صديقه الطارئ والذي أطلق عليه مفردة "بني" في إشارة على ان البطل السارد كان يمثل القاص نفسه، أن يلقنه بعض الوصايا المتعلقة بأهمية اللغة ووجوب المحافظة عليها ودورها المهم والمحوري في الأدب بصورة عامة .."أوصيك بني والشعراء، أن تطعم حرفك بهاء الصدق، وعظيم المعنى، اجعله وهجا تهيم به فراشات الحب والجمال، ولا تخش إلا الله".
* "رقصة فزع": قصة استعمل فيها القاص الأفعال المضارعة وفق نسق سردي متوالي ، لشخص يسير في طريق يقوده إلى بيته، لكنه كمن يدور في حلقة مفرغة، بعد أن أغلق طريق العودة عليه جنود الاحتلال الأمريكي ..طبيعة الأفعال المستخدمة توحي بحجم التيه والتخبط اللذين كان يعيشهما البطل ، بعد أن صور القاص البعد المكاني والزماني لذلك المشهد، كانت الأفعال توحي بوجود إرادة مكبلة مشلولة يحاول البطل من خلالها فعل شيء مجدٍ .."يحط، يسلك، يجد، يدق، يبحث، يرى، يغور، يتكور، ينتظر، يصحو ، يلقي" وهكذا تستمر الأفعال المضارعة لتشكل اصطفافا لغويا يشير إلى الحركة والاضطراب، هذا السيل من الأفعال ينم عن قدرة امتلكها عبد الكريم الساعدي في توظيف الفعل في سياق السرد ضمن جمل مقتضبة موحية.
* "امرأة القمر": في هذه القصة التي تصور لحظة هيام يعيشها البطل يطرح خلالها عدة تساؤلات يبدو انه كان يعرف جوابها، نجد تكرار لا النافية في سياق السرد بصورة ملحوظة، بدءا بمطلعها .."لا ادري متى، وكيف أتيت الى هذا الإسطبل ، لكني على يقين إني كنت مختلفا تماما عما عليه الآن".
* "1700": استخدام تقنية المشاهد والصور السينمائية، عبر انتقالات مكانية وفضاءات متعددة ، ضمن حيز واحد لبانوراما وحشية دموية، تصور مجزرة سبايكر التي ارتكبها الإرهاب بحق 1700 مقاتل عراقي اعزل.
الصورة الأولى: تبدأ بمقطوعة نثرية هي اقرب الى لغة الشعر منها الى السرد القصصي، يصور فيها جزءا من هذه المجزرة في منطقة صحراوية .."قفار ترتدي أشلاء القتلى عند منعطف الخديعة، كان وحيدا يسمع صدى صراخ عن بعد، صراخ يناهض ارتعاشه الخراب".
الصورة الثانية: النهر هو مسرح الجريمة .."كان النهر يرتدي قمصان فجر آثم، يجهش بالموتى، عند بوابة قصر إله من وهم".
الصورة الثالثة: العودة إلى لغة الشعر في التعبير عن مشهد آخر من المجزرة وهو المدينة .."تعتري أفقه مدن تتقلص وجعا، يراقصها هجير صبوة العربان، فحيح الخيانة تلامسها فصول الوسواس".
الصورة الرابعة: استخدم فيها القاص حيزا مكانيا آخر ضمن الزمن نفسه وهو القرية، التي شهدت جزءا من هذه المجزرة. ."تتملكه لحظة تنوء بحشرجة قرى عالقة بغبار الذكرى، تصطف أمامه دروبا من نخيل، يتأرجح بين اللهفة والحسرة حين أدرك مساءات مضيئة بالبوح".
الصورة الخامسة: مفترق طرق يؤدي الى مدن أخرى ملؤها الموت والخيانة.. يطرح من خلالها القاص على لسان بطله سؤال ينم عن دهشة كبيرة وخيبة أمل .."اني لأعجب كيف تزدحم المدن بالخيانة".
الصورة الأخيرة: كانت خارج اطر الزمان والمكان، لوحة افتراضية لأرواح أجساد مغدورة تبحث عن السكينة بعد محنة عاشتها أجسادها.." ثمة أشباح في الأفق أسكتتها الجهات، تحمل شموعا من دمع وقلق تبكي خطاها".
"ذات الأثر": كان لحضور الأسماء في هذه القصة أثره النفسي ودلالته الفكرية، لإيصال جوهر ما أراد إيصاله عبد الكريم الساعدي، في تناوله هذه الثيمة المحملة بالشجن والعاطفة، واستحضاره شعيرة دينية لها حضورها المؤثر على المتلقي، وهي عملية توظيف لفظي تمكن القارئ من فك رموز الأحجية والإجابة على جدلية تاريخية وفلسفية ، تشير إلى الارتباط الفطري للإنسان مع جذوره البيئية والعقائدية حين يكون حب الحسين جزءا من ميراث أب ميت "تعانق أم حسين كل ليلة صدى صوته، تتدثر بعباءة المكان الذي عشقه لخدمة العابرين إلى النور دون خوف".. فكان لاسم "حسين" أثره الواضح في سياق السرد وربطه بالشعائر الحسينية التي تتكرر كل عام ، عبر توظيف لفظي كان عنوان القصة جزءا من الإجابة على هذه الجدلية .. وفي تصوير جميل لحالة العوز التي تعيشها تلك الأسرة الصغيرة التي فقدت معيلها نجد القاص يرتب الأولويات ضمن نسق اجتماعي ممزوج بعاطفة دينية جياشة .."كل شيء يأفل إلا خدمة الزائرين".