ادب وفن

كيف استطاع خمسون كتابا عظيماً إنقاذ حياتي / مقداد مسعود

كيف بإمكاننا التعامل مع كتب ٍ لا نحبها؟ ومَن يسأل «آندي ميلر»، مؤلف كتاب «سنة القراءة الخطرة»؟ العنوان الذرائعي للكتاب هو «كيف استطاع خمسون كتاباً عظيماً إنقاذ حياتي».. استوقفتني مقارنة المؤلف «آندي ميلر» بين روايتيّ «شفرة دافنشي» للروائي دان بروان ، وبين رواية هيرمان ملفيل «موبي ديك».. قرأت ُ شفرة دافنشي كما قرأت «الحصن الرقمي» لدان بروان ولم أتصفح بقية رواياته , وكذلك فعلت مع الروائي البرازيلي «باولو كويللو» الذي اشتهر من خلال روايته القصيرة «الخيميائي».. أصبحت ماركة مسجلة في وجه معظم أغلفة رواياته .. شخصيا أميل لرواية «موبي ديك».. صادقت «آخاب» الذي هو فعلا (خاقان سفينة ، وملكا على البحر، وسيدا عظيماً على الحيتان.... و»إسماعيل» وكذلك الوثني «كويكوج» وما زلت أحفظ هذا الكلام الحكيم «ماذا كان يعني الحوت الأبيض، لدى آخاب ، ذلك ما ألمحت اليه ، أما ماذا كان يعني لدي – في بعض الأحيان – فذلك شيء لم أتحدث عنه حتى الآن». هذه الرواية أثارت الشبهة وهي تتنقل معي أثناء الخدمة الإلزامية الدامية في الجيش، أتصفحها الآن فتتأرج تلك الوجوه الفتية المكتهلة بسب الخوذة، تغمرني ضحكاتهم وملاحظاتهم حول الرواية ونحن نتنقل بين جبال العراق ..»هيرو – كنو – بلغة – قنديل – كوميتان – شهيدان – نورا – رانية..» ومن قمة إلى سفح، حيث القرى الكردية الغافية بسلام آسر .. «شيروت – بوسكين – جيراوه – سرة رشت – سنكسر» ومع هذه التنقلات تتراجع بعض الوجوه.. تختفي بعض الأصوات ، تملص بعض الأقدام ، قبل أن تنتزعها مخالب الاستخبارات من يطغاتها الدافئة .. تبقى بقية لطخة طين في الصفحة الأولى من رواية موبي ديك ، ليس كأثر جرح في جسد آدمي. بل كتذكار محبة يعيدني.. إلى صحبة ٍ أتمنى الآن أن أحضنهم واحدا واحداً... وهكذا بالنسبة لي تحولت الآن «موبي ديك» من رواية بسعة «908» صفحة إلى آلبوم صور للوجوه التي استعارت هذه الرواية مني في تلك السنوات الدامية ..
*
سؤال آندي ميلر الذي ثبته في السطر الأول من مقالتي، سأعمد إلى تحويره ونحن العراقيين مهرة في التحوير: إلى كم نستطيع أن نحب كتباً معينة؟ وهل يتغير حبنا لها ، إذا قرأناها الآن ثانية..؟ تعلقت ُ طويلا بروايات حنا مينه، نجيب محفوظ ، عبد الوهاب البياتي، دستويفسكي ، جبرا إبراهيم جبرا والطيب صالح ومعظم كتابات نوال السعداوي....إلخ.
في بداية مراهقتي وشبابي أحببت ُ روايات محمد عبد الحليم عبدالله ، روايات عائلية لذيذة ودافئة ومهذبة ولا روزنامة فيها ، أعني لا نعرف الفترة التاريخية التي تدور فيها الرواية ، كما هو الحال مع الروائي/ المؤرخ نجيب محفوظ بنكهته الفلسفية السردية .. خصوصا في المرحلة الفلسفية «أولاد حارتنا – اللص والكلاب – الطريق – الشحاذ – الكرنك – السمان والخريف – المرايا – حكايات حارتنا – حضرة المحترم». الآن أهديت كثيرا منها للجيل الجديد الذي يحب القراءة وأهديت قسما منها لباعة الكتب في مدينتي واحتفظت بما أحتاجه وهو القليل جدا، والرفوف التي فرغت لم تبق فارغة، للقراءة غواياتها وتمنعاتها ، أشتري كتبا ، وأكتب عن أخرى ، وهناك الكتب الهدايا من المؤلفين والمؤلفات، وإذا كانت القراءة لا تتوقف عند التقاط موضوعة معينة ، أو انبهار بتقنية كتابة عذراء، بل هي رفقة سفر مع الكاتب نفسه ، لابد أن هذه الرفقة تدفعك إلى غيرها فتتنوع الأسفار كما تتنوع الخرائط والإدلاء.. وكقارئ أنتسب إلى مسافرين بلا خطط ولا يتشهون الوصول، لذا أحلم بتقاطع الطرق، وأغمض عيني لأذهب إلى كل مكان فالخرائط كالأحذية الضيقة والأدلاء لا يتمردون على عادات أقدامهم، ودروبي هي تلك التي تحاولها الروايات والأشعار، وهي محاولات صيرتني كائنا نصيا بوظيفة وسيط بين الميداني والمتخيل، ويا لها من مهنة شاقة!