ادب وفن

"الأشجار لا تغادر أعشاشها" قراءة نقدية / عباس باني المالكي

حين ندخل إلى العالم الشعري للشاعر سعد ياسين يوسف في مجموعته "الأشجارُ لا تغادرُ أعشاشَها" ندرك أنه قد تجلى بشاعريته، من خلال إدراكه الكلمة لا ككلمة ولا كمجرد بديل عن الشيء المسمى ولا كتفجير للحس اللساني، بل ندرك أنه أعطى الكلمات في نحوها ومعناها وشكلها الخارجي والداخلي علامات ترتفع بها من قيمتها الذاتية، إلى الكون الوجودي بكل أبعاده وتطلعاته الذاتية في أن يرى الحياة خضراء، من خلال البعد الترميزي المتناظر مع الحياة الخارجية وداخلية، في بُعد الوعي الحي بكل تفرعاته، لهذا أصبحت الأشجار هي المؤشر على وجود الحياة وتكاملها، كالقيمة الحية للإنسانية والطبيعة التي حوله .
وأستطاع الشاعر أن ينفلت من مصائد وشباك والسقوط في المعنى المتكرر من خلال جعل الرمز الواحد هي القيمة المعنوية والتي تنمو داخل شاعريته، وجعلها بعدا تكوينيا في لغته الشعرية والارتقاء بهذه اللغة و كما أكدت عليها سوزان برنار حول قصيدة النثر "تريد قصيدة النثر الذهاب إلى ما وراء اللغة وهي تستخدم اللغة، وتريد أن تحطم الأشكال و تخلق أشكالا، و تريد أن تهرب من الأدب وها هي تصبح نوعا أدبيا مصنفا" حيث نشعر أن الشاعر يذهب بلغته إلى ما وراء اللغة، فتخلق علاقة رؤيوية وترتفع بمستوى الحس المعرفي المتحكم باللاوعي، ويدرك المتلقي عمق مكنون البناء الداخلي داخل النص، كي يحقق انفتاحا واسعا على اللغة بتشكيلها الدلالي في منهجية الذات وتشظيها، ويقترب من اكتشاف استحضار الواقع لذاته الكامنة، حيث يحرك مشاعره باتجاه الكامن من الرمز الدلالي "الأشجار" فتخرج مشاعره بتراكيب صورية يصوغها عبر مفردات بالمعنى المتغير للرمز الواحد، لكي يعطي مساحة الحياة لهاجسه الكامن اتجاه ما تمثل الأشجار من طاقة على وجود الحياة، وتمثل الأشجار كالارتكاز في البؤرة النصية وبما هو متوهج في الذات التي تسعى إلى الحياة كبعد في أنسنة الأشياء، لكي يكشف ما بين الحياة الحقيقية والحياة المتجردة حين تكون هذه الحياة دون الشجر، لهذا تكون هذه الأشجار البعد الفلسفي التكويني في تناظر مشاعره مع هذه الأشجار، ما تمثله من قيمة الحياة في وجودية الإنسان في أقصى طاقاتها الوجودية ليعيد تشكيل هذه الحياة وفق قصديه ذاته المحركة، لكل ما يقدم له من تمرد في بحثه عن التجدد وصياغة هذا التجدد وفق مبدئية انزياح الاستعاري، إلى عالم أكثر اقترابا من الحلم ويتم هذا بإحداث التغيير الشامل إلى الذات، كي يأتي الكشف بتقارب الأشجار إلى مكنون الذات في الحياة متوافقا مع ما يريد أن يتحقق.
الذي يميز نصوص هذه المجموعة، أن الشاعر اتخذ الأشجار كمركز تناظر وتبادل المعنى بينها وبين كل ما يحدث في الحياة، كقيمة ترتقي إلى مستوى الرمزي في التقديس لأنها عنصر الحياة والكاشف لها، والذي يميز أسلوبيته في إيصال فكرته الرؤيوية، أنه لا يبقى يدور حول المسميات ويعيد تركيب قيمتها بقدر ما يحاول أن يبتعد عنها ، لكي يعطيها أبعاد الحياة وتناظر هذه الأبعاد مع كل ما يحدث في الكون حين يكون مجردا منها، وماذا ستكون حالته حين يكون مجردا من قيمتها المعنوية التي تستدل بها من خلال دلالاتها الحية، أي أنه يحاول أن يأخذ البعد الكوني في فكرته لكي يوسع دلالاته، التي يريد أن يعطيها التسلسل في البعد البانورامي المتحرك وفق حركة الحياة، ويتخذ الشاعر من الحلم في تركيب الدوال، ويأخذ من الشجر البعد الدلالي الظاهر وبعدها يحاول أن يتخذ في ذاته الأفق الذي يتحرك ضمنه، لكي يصل إلى ضفاف المعنى داخله في كل المراحل التي يعيشها أو عاشها، و يمازج ما بين حقيقة الحياة وتناظرها الحي مع الشجر كشيء مقدس، وقد استخدم فعل الإشارة لكي يأخذ مساحة تركيبة في تكوين جملته الشعرية، حيث تأخذ هذه الجملة المعنى حين يتعمق في دواخله ومدى اقترابها من قدسية الأشياء التي ينتمي إليها، إن النص الشعري لدى الشاعر يتكون بين الدلالة الظاهرية وهي الشجر وبين ما يعيش في الباطن من معترك، يحاول أن يبني المعنى من خلاله ليكشف عن صوته الداخلي في سريالية التخيل الإدراكي في تكوين المعنى الداخلي، وأستطاع الشاعر أن يلغي حدوث الانفصال بين الذات وصوتها و حركة الحياة الظاهرية، بل جعل نصه يتمازج ويرتقي ويتطور حسب صوته الداخلي، أي حافظ على جوهرية الفكرة لدية من عدم ابتعادها عن المركز البؤري الداخلي، وجعل الظاهر ينجذب إلى الداخل وليس العكس، فهو يعيش الحياة مثل الشجر بتفرعها الظاهري، ويتجدر جذورها فيتفرع ويشظى ظواهرها الخارجية ويتجذر مع معناه الداخلي، وقد اتخذ من الشجرة الدالة المعنوية، لكي يبني هرم نصه وفق منطق الشجر، لهذا يحاول أن يرسم أبعاد النص وفق قدسية الشجر ووجدوها الكوني حتى في السماء الثامنة، ويتخذ من هذا البعد الاشاري على قيمتها الحية، أي تلازم الشجر مع الحياة كأنها انعكاس كامل لها، لأنها حين تتجرد منها تنتهي الحياة.
"القُدّاسُ المُتواري/ خلفَ تراتيلِ الفيروزِ المعقود ِ/ على جيدِ الذَّاكرة ِ.../ ووقعِ لآلئِ المطرِ المرتطمِ، /بأجنحةِ الطُّوفانِ/ نحوَ سماءٍ ثامنةٍ /أنبتَ أشجارَ شموع ٍ /تتقدُ كما تتقدُ العينانِ الحالمتانِ/ فاغرةً قلبَ اللهفة ِ/ لوجهِ الأسطورةِ"، فهو يأخذ البعد الأسطوري في تطلع الإنسان فيه إلى فكرة الوجود، بعد أن أوصل الشجرة إلى ظاهريتها يبدأ التعمق في داخله لكي يوازي البعد الكيفي ما بين دالته "الشجر" وأعماقه التي يكشف عنها من صراعه الداخلي، حيث يرتد إلى ذاته "أيعقل أني" ينمو صوته الداخلي على ظاهرها و يشظي ناقوسا، أو أن صوته هو الذي يتبعه ويرتب إحساساته الشعرية وفق طاقة هذا الصوت، وأن قصيدة الشاعر تكون ذات مستويين متوازيين المستوى الظاهري مع المستوى الباطني، ويكون المستوى الباطني هو الذي يحرك الظاهري، وأن النص لديه يعتمد الإيقاع الداخلي الذي يتوازى مع الإيقاع الظاهري، لهذا تحتاج نصوصه إلى تأمل المتقارب في فهم المعنى لكي لا يختلط أو يؤدي إلى الفهم والإدراك السطحي لنصوصه، أو تكون كل على حدة وتكون منفصلة عن بعضها، كما يجب أن نفهم نصوصه على أنها نصوص تعتمد النص المزدوج الصوتي ما بين ظاهر المعاني وداخلها، فهو يكون النص من خلال توسع عالمه الداخلي وقد اتخذ من أبعاد الشجر النافذة، التي يتوغل من خلالها إلى مساحات ذاته، ونجد صوته الداخلي في الظواهر التي يعملها، مرة يطوف ومرة يجوب في الشوارع ويكتشفها، ويستمر بطريقته الخاصة بكتابة نصه الشعري، حيث يمثل الباطن الإشعاع المؤثر على حركة الظاهر منجذب نحوه، ما يجعله يبقى متوازي مع جوهرية الفكرة للنص، حيث نلاحظ هذا من خلال تأكيده على ما يحدث له حين يعمق في داخله من تصاعد الإيقاعات التي تسبب هطول العرق ومن خوفه الذي يؤدي إلى رعشة كفه، وبعدها يخرج من داخله ليوازيه مع الظاهر، ويعتمد الصوت الخارجي "صوتك يجلس قربي يعانقني"، ونشعر أنه يعيش مواسم ذاته في كل أبعادها التركيبة الدلالية، فيغب برعشة الضوء ويعيش الإغفاءة بين الفينة والفينة، ويصبح المعنى الداخلي هو الكاشف، و يتسع إلى حد كشف الظاهر لكي لا تحدث الفوضى وتتحول التيجان إلى أحذية مرمية بسبب غياب المعنى و تحوله إلى معان هامشية وفوضوية :"تتصاعدُ إيقاعاتُ هطولِ العرقِ المتفصدِ/ من خوفي".
يستمر الشاعر في اتخاذ الشجر دلالة رمزية يعيد عن طريقها تكوين التأويل وفق طاقة التخيل، واستدراجها الصوتي في لسانية بصرية الفكرة التي يريد أن يضمنها نصه، حيث يتخذ من الحياة التي تتجمع وتتكون في البؤرة النصية الموصلة إلى المعنى الحي برمزية الشجرة، ففي نصوصه السابقة يتخذ من الشجرة المفتاح التقويمي الرمزي الذي يدعم تكوين النص عنده وبعدها يتشظى حسب موقعية الحياة داخله، أما هنا فيتخذ من الشجرة المركز البؤري في رؤيته إلى الحياة، ومن ثم يجعل من أبعاد الشجر الداعم لتركيز المعنى وثباته باتجاه الدالة التي يريد أن يوصلها، و يتخذ منها بعدا توجيهيا لكي لا يبتعد عن البؤرة المركزية، وهذا ما يعطيه القدرة على التموضع التناظري مع جوهرية الفكرة المرتبطة مع الرؤيا الذهنية التكوينية في الاستدلال، و يأتي هذا من خلال سلسلة من المرئيات البصرية التي تحكم النص، وقد أتخذ الشاعر من الرؤية الوجودية في كيانية الإنسان كدلالة معنوية، وجعل من الحياة هي الدالة الكبرى التي تعطي البعد البؤري من ثم ربطها مع التعبير التأويلي للشجرة . هو لا يسلك نسقا واحدا في شعرية نصوصه، وحتى وان كانت الشجرة هي المركز البؤري لهذه النصوص، حيث يستدرج التشظي في المعنى من ثم يجمعه في البؤرة المعنوية لكي يستمر في إعطاء التأويل وفق هاجسه الداخلي، أي يضفي المعنى على الخارج حسب قيمة الحياة واقترابها من تصوره الذهني، وقد اتخذها الأفق الذي يتشظى فيه، وحول الشجرة إلى الإشارة، واستخدم الدالة والمدلول لعنصر الحياة داخله بتأمل فكري باطني من أجل أن يشرك كل المسميات مع بعده التنظيري في الكتابة، فهي الرحم الكبير وأغصانها المتفرعة في كل جوانبها الحية. فيترادف بالتسلسل المعنى الباطني لفكرته حسب تحسس ذاته، التي تحرك المسميات وتوهجها وتشظيها داخله، غير آبه بالجمر المشتعل من أجل الوصول إلى الأمنيات، ومع هذا عليه الوصول إلى هذه الأمنيات رغم الأسلاك الشائكة، ويسعى من أجل أن تولد الفرحة داخله ويجعل المعنى ودلالته هي من تحرك الرؤية البصرية التي تعيد كشف الاستعارة المقاربة إلى رمزيته، ويضمنها مسميات ذاته إلى حد تتطابق هذه المسميات مع المسميات الخارجية لكي يبتعد عن الرموز المبهمة والبعيدة عن المنطق الدلالي، وهذا ما يجعل النصوص لدية قادرة على إحداث التأويل المؤثر في فعالية تكوين الصورة الشعرية، ومسك الدلالة السيميائية في رموزه كما يجعل هذه الرموز ذات طاقه فعاله، لتجمع الأنساق الذهنية التصورية، ضمن آفاق رؤيوية متطابقة مع رؤيته للحياة وقيمتها المعنوية المتمثلة بالشجر، فيتخذ تفرعات الشجرة وما يشير إليها من أغصان ويرتقي بها إلى المعاني التصورية في فكرة الأنساق الدلالية المتشظية والمتمركزة في التوحد العضوي للنص، ونشعر أن النص لدية بقدر التشظى الدلالي يجتمع في المعنى الواحد في الثيمة التي يريد أن يكونها في كل نصوصه، ويسمى الأشياء بأسمائها، ومن ثم يعيد تكوين نسقها الدلالي حسب نسق مسمياته ، وهذا ما يجعل نصوصه متوهجة لا تخفت في نهايتها بل تتطور وتتكاثف اتجاه فكرة النص ويفعلها بالإشارة المعنوية التي تقارب التأويل في تكوين النص، فبعد أن أشار إلى الليل الذي يكون شديدا أسود، والذي أشار إليه من خلال التواصل الدلالي من تخمته بفقد النجوم، إلى حد تنعدم الرؤيا فيه ولكي يؤكد أنه لم يفقد الحياة من خلال دلالة الأصوات التي يسمعها، وقد يشير هنا إلى غرفة المعتقل حيث لا ثقب في سقفها وشديدة السواد وتنعدم الحياة فيها إلى حد فقدان الرؤيا ولا شيء يشير إلى أنه مازال حيا إلا الأصوات، ولهذا يشعر بأسلاك الفقد قد تكون أسلاك التعذيب، والإشارة هنا إلى جذع جدار السنوات العاري لأنه يذكره بتواريخ الجمر أي التعذيب، ولم يبق في ذاكرته إلا سنوات التعذيب.