ادب وفن

الرقص على الوجع.. نوافذ على المعاناة / جواد وادي

حين يتمكن الشعر من المبدع ليتحول إلى كينونة لا مفر منها أو هوس ليس بمعناه السلبي، بل يصبح سر وجوده وماء الحياة الذي يبحث عنه ليمده بسر علاقته مع الأشياء، ويتزود بهذا العشق الذي يتحول إلى عشق صوفي وملاذ لا خروج منه، لصيرورة لعلها قد استوطنت في تفاصيل الشاعر اليومية، فيعود الشعر لديه يافطات يومية يعلقها على صدره بتفاخر قد يثير الاستغراب، ولا يشعر بوجوده إلا من خلال إيصال ما يكتب لمن يحيط به من شعراء ونقاد ومهتمين، حتى لتتخيل أن مسا من الشعر قد أصاب هذا الرجل،
وهذا التوصيف لم يأت اعتباطا، بل من خلال مزاملة ومعايشة ولقاءات مستمرة مع الشاعر تضطرك للنزول عند رغبته للإنصات لما يريد قراءته، ولكن ما أن تنتهي لحظات القراءة حتى تكتشف أن الشاعر محق في التمسك بنصه وحرصه على أن يوصله للأقرب له، سيما أن ثلة من المبدعين، شعراء وروائيين ونقادا ومثقفين يزورونه في مقر تواجده عمله فتراه، وهنا تكمن الغرابة في الأمر، ينسى طبيعة عمله الذي يتطلب تعاملا مباشرا مع الزبائن، ليشرع بإخراج قصاصاته ويبدأ بقراءة آخر ما كتب وهو يترنح فرحا مع نصه، مما تدفعك هذه الحالة التي لا تخلو من التساؤل، أن تحترم هذا المبدع وبالتالي تتعلق بنصه وتضطر إنصافا لتعلقه بما كتب، أن تشاركه لذة الإنصات وإبداء بعض الملاحظات التي تسعده جدا، يستمع لتلك الملاحظات باحترام شديد لإعادة النظر في بعض الصياغات التي قد يبديها المتلقي وبنشوة كبيرة، هذه الحالة يرفضها العديد من منتجي نصوص قد تحمل الكثير من الهنّات الشعرية، ولكنهم يمتنعون وأحيانا بطريقة فضة، لما تبديه من رأي من أجل تقويم العمل.
هنا يكمن احترامك لهذا المبدع الذي تشرفت بإعداد قراءة لديوانه السابق "الرصيف العاري" والذي لاقى استحسانا كبيرا من لدن نخبة المثقفين من مبدعين وغيرهم.
كم هو جميل أن يبادر الشاعر ستار الدراجي بفتح نوافذ على الشعر ليطرد غبش اللحظة، سيما أنه يعيش في بلد كل ما فيه موت وقتل ونواسف وخوف وجريان دم وبنى مخربة، مما يدفع بالمرء أن يفكر وبألم بما يحيط به، فيختار الشاعر الدراجي أيسر الحلول تلك التي تخفف عنه أعباء الخراب الذي يطوقه، باللجوء إلى عوالم الشعر والسفر بروحه الكسيرة إلى مديات تغاير بالمطلق الواقع المعاش، ولو للحظات، دون أن ينسى أنه يعيش في ذات المواجع التي تقض مضاجع مواطنيه ومن يتعايش معهم، لكنه محظوظ كونه ينتقل بشعره إلى خيالات مفترضة تخفف كثيرا من الإيلام اليومي لناس تلك الأرض التي ابتليت بالنوازل منذ بدء الخليقة وحتى يومنا الراهن، لهذا لا غرو أن يوسِم ديوانه الجديد "الرقص على الوجع" موظفا حرف الجر "على" بدل "مع" ليكون الإحساس بهول الكوارث أكثر وجعا وحرقة، وكأنه يرقص على جمر المواجع وهنا يكمن الاختيار الفطن لعنوان المجموعة.
ففي نصه الذي يحمل عنوان الديوان يقول الشاعر:
أغمض عينيه كي لا يرى الحقيقة
راح يبحث عن دموع لحزنه
حبس أنفاسه ليعطّل ساعة الزمن
رمى تذكرة السفر
وانتظر وصول القطار
حين نتمعن مليا في هذا النص، نجده مركبا ومتشابكا بمحطات تشي بحجم المحاصرة التي تحد كثيرا من أنفاس الشاعر التي ينبغي أن تكون في استرخاء كامل لما تتطلبه طبيعة العيش الآدمي، وهذه السردية الموجعة تتعدد فيها الحالات الغريبة بمتناقضات قد تبدو غير مألوفة لمن لا يعيش ذات الألم، فهروب الشاعر من لحظة المعايشة التي قد تسبب له إيلاما شديدا، يضطر لإغماض عينيه هروبا لما يرى من أهوال، فيلجأ إلى بديل آخر للبكاء الذي ما عادت عيناه تدر دموعها تعبيرا عن الحزن لحجم المأساة التي يعيشها، يتوحد مع ذاته ليتوقف كل شيء لديه، المكان والزمان وكل ما يحيط به، بحثا عن الخلاص النهائي. فهل هناك أمضى وأشد حزنا من هذه الحالات المريرة التي يعانيها العراقي المبتلى بنوازل لا نهاية لها.
هنا يتحول الشاعر لسان حال معذبي أبناء جلدته، وهذا هو ديدن الكتابة لدى الشاعر ستار الدراجي.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة على المتلقي من خلال تعامله مع نصوص الشاعر هو: هل بإمكان الشاعر أن يصبح دليل نصه؟ أو هل أن قصيدة الشاعر تظل سمة لهذا الشاعر دون غيره، مما تقودك بوصلة القراءة أن هذا النص تحيله للشاعر دون أن تتعرف على مبدعه؟ وهذه سمة يتفرد بها الشاعر ستار الدراجي بامتياز.
إن الشاعر ستار الدراجي ينجب قصيدته لتمتلك خصوصيتها الشعرية فتغدو كمن لديه معجم شعري بعوالم تغاير الإبداعات الأخرى.
يقول الشاعر منذر عبد الحر في تقديمه للديوان ضمن المقطع المجتزأ ليزيّن الغلاف الخلفي:
"ستار الدراجي يلتقط شعره من نبع المعاناة، من صهيل الإصرار على الحياة، حين تتدفق منذ لثغة الصباح الأولى ليقول لها: ها أنذا ألوي يد مستحيلك، من أجل أن أخرج بنشوة قصيدة ترفع عن كاهلي كل أتعاب الدنيا وهمومها".
بهذه القراءة العاشقة تتضح طبيعة القصيدة الدراجية، كونها عبئاً ثقيلاً تنهك وجود الشاعر، وما أن يخرجها من تلافيف جسده وروحه، يتنفس الصعداء وكأني به، يظل يلوب ويلوب كي يلوي عنقها ويضمها تحت جوانحه، ليطيرا بعيدا بعوالم أكثر ترفا عما يحيط بالشاعر من رثاثات تحيل العيش جحيما دائما، وهنا يمكنني أن التقط هذه الفكرة للحظة كتابة القصيدة لأكتشف، أنا الذي خبرت الكتابة الشعرية لما يناهز الخمسين عاما، بأن الدراجي ليس وعاء شعريا ممتلئ العطاء فحسب، بل هو مجموعة أقنية شعرية تصب في أطباق شهية، لتحيل القراءة إلى فسحات من النشوة والفرح وكثير من المسرات، وهو بهذا العشق النادر لنصوصه.
لماذا الرقص مع الوجع؟
لا يخرج الشاعر ستار الدراجي كمجايليه، من ذات الدوامة التي تحاصر المبدع العراقي بكونه جزءا من الوجع العراقي، وعملية الانسلاخ هنا تبدو مستحيلة، لأنها تطوق المبدع في كل تفاصيل حياته، ولا نجد عملا ابداعيا من أي جنس كان لا يقطر دما وهو ينزف على المشهد الحياتي الكسيح، وهذا هو قدر العراقيين عامة والمبدع على وجه التخصيص، كونه يلتقط بمجساته كل ما يحيط به، والشاعر الدراجي ومن خلال اقترابنا الشديد من تجربته الشعرية في جل أعماله، لصيق بذات المحن والنوازل المتلاحقة، لهذا نجده يقترب كثيرا من صياغة القصيدة اليومية بأنفاسها التي نحسها تتصاعد مكانا وزمنا وحياة موجعة، بأحاسيس لم يمنح لساكنة الأرض هناك والشاعر واحد منهم، متنفسا ليستشعروا لذة الحياة ولا من بارقة أمل تخرجهم من هول المحاصرة الجائرة.
لهذا نجد أن جل نصوص الشاعر الدراجي موغلة بالسوداوية والنظرة الموحلة، مجترحا من هول المعاناة نصه الشعري الذي يتسم بالصدق:
ليس لي مأوى
إلا هذا الدخان المندفع من شفاه السكائر
غير هذه الريح التي تضرب
أسنان الجدار "مأوى"
ما عسى الشاعر أن يفعل لإيقاف نزيف العذابات غير البياض ليطبعه بالكدر اليومي وهو بهذا الإحساس المتراكم والمخيف منذ فتح عينيه، وهو يعاني من ذات الدوامة، لا بتكوينها المائي، بل بحرائقها المتواصلة، دونما بارقة أمل للفكاك.
جميل أن يجاهد الشاعر وهو في هذا الصراع الدائم والمميت، أن يخلق لحظة مؤانسة حتى ولو كانت خادعة، ليشعر أن ثمة أملا، ليحس بنبضه، وأنه ما زال على قيد العطاء، بعد أن أنهكته الأعاصير.
لم تكن زهرة
ولا شجرة لبلاب
ولكن زرقة عينيها
وترقرق الماء فيهما
وحده حكاية ليل
ينزف على الأكتاف "شجرة اللبلاب"
ما أجمل أن يشجّر الشاعر صحراءه بقليل من الفسائل اليانعة، ينظر للبعيد وهو يرعاها بكل مواجده.
وددت أن أنهي هذه القراءة بنص آلمني جدا، حتى أحسست بدموعي تنزل دون أن أشعر بها، إنه نص "إلى والدي مع الاعتذار"
قد لا يعي القارئ البعيد عن تفاصيل حياة الشاعر، بما أحسسته وأنا أقرأ هذا النص بإيلام شديد، لقربي من الشاعر روحا ودما ووشيجة حب وذكرى موغلة في الزمن البعيد، وهو بهذا النقاء لينصف مراحل حياته التي ما استكانت يوما وهو بعلاقات مد وجزر مع أبيه، وهذا الإهداء لأبيه هو بمثابة طلب الصفح عما مر بطريقة صوفية لا تعرف غير صفاء اللحظة والتوحد:
والدي
عيونهم تهمس
حتى وأنت... كما كنت
لوعة متجذرة
دمعة حائرة
عصارة الأيام
والدي جميل كالقمر
أبيض كالثلج
رائحة الياسمين العطرة
صرخة العقود السبعة
جدران نقرة السلمان حفرت اسمه مع الشجعان
هل كان شيوعيا حقا؟
هذا النص يشي للقارئ الذي لا يعرف عن والد الشاعر، بأنه كان يوما ضحية من ضحايا الفاشية في عراق الستينات، يوم كان نزيلا في سجن نقرة السلمان سيئ السمعة مع رموز الكفاح العراقي آنذاك، واحد ممن رفض اجتياح البرابرة من البعثيين للتدجين والمساومة، وظل وفيا لمبادئه النبيلة رغم بساطة وعيه، ولكن بإيمان لا يتزعزع بالمستقبل، وبأن الأعاصير الصفراء سرعان ما توقفها الإرادات الخيرة.