ادب وفن

هجرة التشكيل العراقي / ستار الناصر

فن التشكيل فن قديم قدم الانسان نفسه. وقد وصلنا الكثير من الرسومات التي خطها الانسان العراقي القديم على الجداران بأزهى الألوان، كذلك المنحوتات الجميلة المعروفة، وليس في العراق فحسب بل هي تزين أكبر متاحف العالم المعروفة. وكان العراق ولم يزل من بلاد الرسم الأولى عربياً من خلال مجاميع الفنانين الذين شكلوا أولى المدارس في فن الرسم والنحت وغيرهما من فنون التشكيل، كجواد سليم صاحب نصب الحرية العملاق، وخالد الجادر، ونزار سليم، وفائق حسن ونوري الراوي ومحمود صبري، وإسماعيل فتاح، وخالد الرحال، ومحمد غني حكمت وغيرهم اخرين ارتقوا بالمشهد التشكيلي الى أعلى مراحل الرقي. ليس على صعيد اقامة المدارس وتشكيل الجمعيات وإقامة المعارض فحسب بل التدريس ونقل ما تعلموه الى طلابهم من الناحيتين الفنية والأخلاقية. وكذلك تأسيس كلية الفنون الجميلة، وقبلها معهد الفنون الجميلة ؛ وهي المهمة الأكبر، حيث انهم وضعوا أسس فن ملتزم بقضايا الانسان ومعبر عن مكنونات نفسه ومتطلباته.
بيد ان ما نشهده اليوم من استمرار ظاهرة هجرة الفنانين التشكيليين الى دول العالم ـ وهي مناف تسلب الفنان الكثير من عطائه ـ وبالتالي هي ظاهرة تشكل خطرا كبيرا على الذائقة العراقية. وأكيد ان لهذه الظاهرة وانتشارها اسباب اهمها ضيق الحال عند الفنان التشكيلي ؛ فبسبب الحروب التي اشعلت فتيل نارها عنجهية النظام الدكتاتوري السابق؛ جعلت الفنان في ازمة مالية مستفحلة، لأن الانسان العراقي ـ المتلقي المشتري ـ هو أيضا يعاني الازمة نفسها وطغيانها ـ فالذي يبيع اغراض بيته ليتقوت بها يوما او يومين ـ لا يستطيع ان يشتري لوحة ولو بسعر زهيد. نعم ان الفنان العراقي المهاجر استطاع نقل تجربته الغنية الى الدول التي اتخذها مقرا لعمله، وأغنى المشهد الجمالي، هناك لكن الغربة قاتلة لروح الفنان على اقل تقدير. وبعد ان زالت غمة النظام وطغيانه بعد عام 2003 ؛ عاد عدد من الفنانين الى بلادهم وفي جعبتهم الكثير من الأمل في ان الحال قد تبدل تماما، ولكنهم لم يجدوا من ما تمنوه غير كلام مطعم بسيل من المصطلحات الطنانة التي لا تتوافق مع احلامهم في الارتقاء بالفن التشكيلي ونشر جماليته من أجل متعة الانسان العراقي المبتلى بتعاقب أنظمة الاستلاب. فعاد "بخفي حنين " حيث الغربة مرة أخرى.
وهذا لا يعني مطلقا ان الساحة العراقية الآن خالية من فنانين تشكيليين ممتازين ؛ ان هذا الزعم ليس صحيحا ؛ بل هناك فنانون رائعون في فن التشكيل، وقد اقاموا معارض ناجحة فنا وجمالا.
لكن تلاقح التجارب المختلفة هو من أهم أسباب الرقي في الفنون كافة. ويبقى الأمر كما هو عليه من حال لا يسر، حتى تنهض الدولة بهذه المهمة، وأهمها تحسين وضع الفنان المادي، والإكثار من قاعات العرض المناسبة للفن العراقي المتقدم والذي اشادت به الكتب النقدية التي تناولت الفن التشكيلي في العراق، وإقامة المهرجانات على غير هذا النحو التقليدي ؛ بل مهرجانات يشارك فيها فنانون معروفون من مختلف انحاء العالم. وبهذا يمكن ان يعود الفنان التشكيلي وهناك متسع لتحقيق احلامه.