ادب وفن

المعاني الظاهرة والأسطورة المخلـقة / جاسم عاصي

أطلق ماثيو ارنولد عبارته الأثيرة: ان الفكرة هي كل شيء بالنسبة للشعر، والباقي هو عالم الوهم الرفيع. ربما أراد من خلالها أن يضع المعاني في باب الصدارة، أو الأسس التي بالإمكان تشييد عالم القصيدة عليها. فالمعاني هي المحور الذي تنطلق منه القصيدة وتتشرنق حوله، وهي المثابة التي تنتمي إليها المعاني والأجزاء عموماً. لذا فقصيدة بلا فكرة معينة لا تعد نصاً يتوجب تلقيه، أو بمعنى استحالة استقباله لأنه أساساً هيوليا لا ثوابت له. فالمعاني تتباين وتتداخل وتتشظى، لكن وسائل تحققها تتكيف على وفق طاقتها وكوامنها، إذ من السهل معرفة حالة التخبط ولا جدوى القول في كلام يطلق عليه شعرا أو قصيدة جزافا. فالكلام الذي لا ينعكس محتواه على المتلقي ليس قولا. ونقصد بالانعكاس هو حالة التفاعل والانفعال والتجاوب لأي من الأسباب، لكن السبب الذي يعني تشكيل النص الشعري هو الأساس وهذا الانفعال، هو حالة من التجاوب إزاء مجموعة العلاقات أو المنظومة الداخلية للنص، والتي تفيض وتتوزع على أساس التوالد والتشظي وفق طبقات المعرفة عند المتلقي، وقدرته أو طاقتة على البث. لذا نجد أن شعر هادي الربيعي، يتوافق مع ما ذكرناه، لأنه في الأساس ينطلق من مثابة المعنى باتجاهات مختلفة، تثري الشعر وترسم أفاقا أكثر سعة للقصيدة. وجل ما نراه في ديوان الربيعي "عالم الملائكة"، هو انفتاح القصائد على كثير من مكونات التشكّل، ذات الحساسية الخاصة، ذلك لأن الشاعر تعامل مع المشهد بحساسية خاصة، هي حاصل تحصيل بين عقلية وروحية النظرة، إذ يكيّف أحدهما للأخر بمنطق خاص، وبنسق شعري، تدركه الشعرية، فالمنطقي أو العقلي يتحول إلى روحي بفعل التدرج والانفتاح للأفق الشعري، والروحي يعود إلى العقلي في سببيته، بمعنى استحالة عائمية الركائز أو انعدام سببيتها. فالروحي مسبب، والعقلي كذلك والسببية كامنة داخلها، ومشكّلة صيرورته ونواته، وبالتالي حركته ونمائه.
لعل قصيدة هادي الربيعي عموماً، تتميز بما يتوفر فيها من جهد أولاً، وصدق فني وموضوعي ثانياً، وهذه الخصائص انطلقت من مجموعة ركائز فنية وموضوعية، إذ يلعب المكان دوراً أساسياً في روحية النص الشعري، أي الارتقاء به بعد اعتباره ركيزة لانفتاح المشهد، وهو عموماً مكان يتصّف بحساسية خاصة – كما نرى– وهو في المحصلة النهائية المحرك والواهب لمجمل الحس الشعري وتعامله معه، ليس بالوصف فحسب بل باتخاذه أداة تحويل وتركيز شعري، تكمن فيه طاقة شعرية، وليس ديكورا يؤثث القصيدة فقط، هو عموماً مكان ذو نسق أو متن روحي يرتبط بمولد التكثيف والانبعاث، وهو مركز الأسطورة أساساً ومن تلك الأمكنة :"الجبل" فهو يرتبط بالعليّة أو الارتقاء والمطلق الروحي ما قبل بناء الزقورات وأماكن العبادة، وهي مراكز الاتصال بالرب المعبود، والشواهد كثيرة في الكتب المقدسة والأساطير، ثم "البحر" وهو أيضاً له مركز روحي يضاف إلى مركزه، كونه يمثل المطلق كمرموز يهب الإنسان آفاقا واسعة، وهو مقدس، يأخذ قدسيته من قدسية الماء، وتشكّل الكون. والشاعر يولي اهتماماً واضحا لهذين المرموز ين، وتوظيفهما بشكل لا يربك نسق القصيدة بقدر ما يعمّقه أو يثريه، ذلك لأنه يستخرج من خلالها الطاقة التي رحّلتها الطقوس الكامنة في عقله الباطن، وتمثلها شعرياً. فالتوظيف هنا يبدو واضحا بسبب اتصاله بالنسق، وتحديده مساره و تشظي حياته تدريجيا ً، وهذا حاصل من امتداد المعاني. إذ من السهل ملاحظة توزيع وانبعاث الصور، فما أن ينفتح باب لهذا المكان أو ذاك، حتى تحقق العودة إليه لسد الفراغ الحاصل في صيرورة الواقع. إن ما نراه في توظيف هذه الرموز أو سواها، إنما لمعالجة الشرخ الذي يتدرج على جسد الحياة، وذلك باستنهاض قدراتهما على التوليد والبحث، كونهما مرموز ين يحتويان على طاقة غير متناهية. كذلك يقرّبان الحالة النفسية والوجدانية وهي في حالة التشبع الصوفي والوله والتوحد مع المطلق، فهما مطلقان يؤديان بروح الشاعر إلى التخلق، لأنهما يرتبطان بمرموز مخلّقة. إذ يتحقق مستوى المكان أيضاً، لارتباط الثاني بالتاريخ فأزمنته عموما تراوح بين الحاضر والماضي، وهو إنما يحيل مثل هذا إلى نمط من السرد باستخدام أفعال دالة على ذلك، والعودة إلى زمن الماضي لا يحكمه صراع قوي، بقدر ما يشوبه هدوء شعري خالص. إذ يبث مثل هذه الانتقالات ليحدث موازنة بين ما هو حاضر معنى. وبين ما هو ماضِ كذلك. ثم انه يدعو الأشياء ويستحضرها ليؤسس زمن القصيدة المشيد على أساس نفسي وذا علاقة بـرمزه الأسـاس "نورندا". ذلك لان الشاعر لم يعتمد في توظيفه على أسطورة معينة، على الرغم من تمثله لمجموع عناصر تشكّل الكون والعالم. إذ أنه يعتمد على تأكيد أسطورة نصه الشعري من أسطورة رمزه "نورندا" الذي اختط له مساراً بفعل التراكم منذ ديوانه "ارتحالات" ورمزه المؤسطر هذا. إذ لا يعثر الملتقي له على خصائص واضحة كان الشاعر قد استلها من الموروث، كأن يكون من مجموع خصائص الآلهة أو الشخصيات الأسطورية "الميثولوجية"، بل نجده ينحت له مساراً، ويؤكد صيرورة خاصة لوجوده، كما وأنه لا يؤكد من خلال العلاقات التي تتم بين رمزه وما يحيطه على الصراع الثنائي المعروف بين سلطة الذكورة والأنوثة، بل أنه غير معني بذلك، فرمزه نورندا هو حالة من خلق الموقظ والمطهر، والفنار والمحرك الذي يقيس بواسطته المسافة الروحية. أو على حد قول باشلار – في طبيعة الخيال في النص كونه – "يتصل برموزات ذات أصل قديم...". بمعنى أنه رمز مؤسطر، أي مخلقاً، إلا انه يرتبط بشكل أو بأخر بما هو مضمر في لا وعي المنتج من خصائص، فالأسطورة حاجة نامية لا تنبثق من فراغ معرفي، وإن لم تظهر عناصره مباشرة، ومما يؤكد حركة هذا الرمز وتطويره وتأثيره على النص الشعري ما نرى فيه من حركة وتحفيز على الكشف إذ ينبغي أن يكون للأسطورة الشخصية قيمة كشفية. . وهو نوع من المزج بين ما هو أسطوري وبين ما هو واقعي – مؤسطر – ضمن سيرة المنتج الذاتية.
لذا فأسطورة أو رمز "نورندا" أجده مؤسسا على قاعدة خلق المعاني الجديدة داخل القصيدة ، وإثراء لمعانيها، بل انفتاح على ما هو غير ظاهر، أو على حد قول "ايزر" في ما يخص الأثر الذي يتركه الأثر الرمز في النص كونه يحيل إلى الدلالات بما يمتلكه من خاصيات ويوفره من معان جديدة، أي أن :"النص + القارئ = الأثر الجمالي للنص". إذاً أسطورة هادي الربيعي هي نحت بمفرد باتجاه عالم أكثر سعة وجمالا وتوليداً، فهو رمز وأسطورة متغـيرة، متلونة، تبث ولا يتوقف بثها، بمعنى تتكون طالما تتكون الرؤيا أساساً، لأنه رمز مفردة يتكون من :"نور + ندا – مجتزأ من نداء = نداء النور"، وهذا يتعلق بالروح قبل العقل وأعتقد أيضاً إن هذا التوظيف لمثل هذا الرمز – الدال – والمخلّق استطاع من خلاله الشاعر إن يؤسس منحى تجريبياً للرمز، الذي استقر بفعل التراكم الكمي إلى النوعي – الأسطورة – وبفعل الدلالات والمعاني إلى ثابت ثم متحول أو انه استطاع أن يمرر ويضيف مفردات الموروث ومتعلقاته عبر ذاكرة تؤسس ولا تنفصل، وهو منحى تفرد به الشاعر عن سواه.