ادب وفن

«حياة في حقيبة».. تمثلات المرجع / عبد علي حسن

منذ زمن ليس بالقصير، لعله يمتد الى ثلاثة عقود - يحاول الشاعر رياض الغريب اجتراح بنية اسلوبية تشير اليه لاستيعاب تجربته الشعرية التي تثير جدلا مبعثه اعتماد البنية السردية كحاضنة شعرية ، الامر الذي يجعل من نصه الشعري امتناعا للسهل ، ولا شك بأن الموجه النصي في تجربته غالبا ما يحتكم الى الوقائع الحياتية –اليومية - لتكون الاساس الذي يبني عليه نصه ، وقد تبدى هذا السعي من قبل الشاعر رياض الغريب في جميع دواوينه الشعرية وتحديدا منذ ديوان "واقف في انتظاري" وديوان تلك صورتهم الأخيرة، حتى ديوانه الأخير "حياة في حقيبة" إذ تشكل الواقعة اليومية المثابة التي ينطلق منها في تأثيث النص بعيدا عن موجهات القصيدة اليومية المعتمدة على التقاط ما هو شعري في اليومي السريع والمؤقت والمتعاقب.
فالواقعة اليومية التي يحفل بها الواقع العراقي خاصة بعد 2003 تعد معطى محفزا لمحاور تعبيرية متعددة تبدأ من بساطة اللغة التي تخفي في جوانيتها نصا آخر بفعل الاشتغال على الاحالات الدلالية التي تنقذ النص من الوقوع في منطقة البساطة المبتذلة والمكشوف وتكسبه دهشة التلقي عبر تأويل المتلقي للوصول الى النص الآخر/ المضمر الذي يمنح النص دفقه وحيويته الشعرية المتجاوزة للتفاصيل المملة والمكشوفة للواقعة اليومية . لذا فان النص التعبيري لدى رياض الغريب يسعى الى ان تكون مهمة النص هي إعادة انتاج الواقعة واختراق القشرة الخارجية لها بعدّها مظاهر مرئية والانتقال بها الى اللامرئي. ونعتقد ان هذا السعي هو جوهر النص في تعالقه مع الواقع وكذلك في خطابه المتلقي .
وهنا يلاحظ ان التجربة الحياتية توازي التجربة الشعرية الخارجة منها وفي كلا المستويين الفردي والجمعي على حد سواء . وما تكريس فضاء الوقائع اليومية الفاعلة في البنية الاجتماعية الا الباب الواسع والمشرع والمدخل المناسب والمؤثر لتعميق الاحساس الشعري بما يحصل في الواقع العراقي المتصف بالغرائبية والادهاش عبر الخطاب الجمالي للنص الشعري. وازاء ذلك فان التفاعل مع غرائبية الواقع المتقاطعة مع عوامل الوجود البشري يستدعي نصا وخطابا يفوقه ويتعالى عليه ان لم يكن يوازيه في الغرائبية والدهشة التي تخلقها اللغة عبر الصياغات الاسلوبية والبلاغية .
ووفق السياقات الاسلوبية الآنفة الذكر فإن الشاعر رياض الغريب في نصوص ديوانه الأخير "حياة في حقيبة" البالغة 36 ستة وثلاثون نصا قد قدم نصوصا شعرية إفصاحية كشفت وبشكل صريح ومضمر عما يجري في البنية الاجتماعية العراقية في الوقت الراهن .. على ان هذا الافصاح وان اعتمد السرد في بناء النص الا انه استطاع ان يوظف ذلك الافصاح وفق تقنيات جمالية مدت جسورا ودية مع المتلقي الذي كان حاضرا في النص بعده مكونا من مكونات التجربة الاجتماعية الراهنة ..وقد تبدى ذلك من خلال تحليل بعض نصوص المجموعة التي جمعها عنوان رئيس ثبت على غلاف المجموعة وهو "حياة في حقيبة" الذي اجترحه الشاعر من عنوان أحد نصوصه "أفكر.. حياتي في حقيبة" ليشير الى فضاء التجربة الواحد ويحمل دلالة الحياة غير المستقرة بوجودها داخل الحقيبة المعدة للسفر والتنقل الدائم ، لذا فان نصوص المجموعة كانت في الفضاء الدلالي للعنوان الجامع ، وهذا لا يعني ان النصوص تمثل تجربة واحدة وانما تعني --وفق ما اشرنا اليه آنفا - تشاركها في البناء الاسلوبي وانها ضمن الوقائع التي انتجتها بتمثل معطيات تلك الوقائع على صعيد التجربة الحياتية الخاصة بالشاعر أو ضمن التجربة الجمعية للمواطن العراقي .
ففي نص اولادنا التي هيمنت فيه الوظيفة الانفعالية/ الشعرية تكريسا لبنية التهديد المستمر للوجود البشري وتوقع القتل والموت في أية لحظة:-
أولادنا اشجار حدائق
كلما أثمرت
أوقدوا لها حربا جديدة ..
فالنص هنا يشبه أولاد العراقيين بأشجار الحدائق التي حالما تكبر وتثمر تواجه الموت عبر الحروب الجديدة المشتعلة في اشارة الى توالي الحروب التي واجهت وتواجه الفرد العراقي باستمرار ، ولو استبدلت مفردة "حربا" بمغردة "نارا" لكانت ادعى إلى الانسجام مع السياق التشبيهي وتوفر فرصة للمتلقي في التوصل الى دلالة متسعة دون حصرها في مفردة "حربا" وهي دلالة مكشوفة .
وفي المقطع التالي من النص نفسه: -
كلما ارادوا العبور للضفة الأخرى
انتشرت على السواحل
جثث احلامهم..
يبتعد النص الانف الذكر عن تشكيل البنية الظاهرة السطحية لتصوير حالة الياس من الوصول الى أكثر تحقيقا لحياة سليمة ، الا أن هؤلاء الأولاد سرعان ما تنتهي أحلامهم على ساحل الموت دون تحقيق بدلالة عدم امكانية الوصول الى الضفة الثانية.
أما المقطع الثالث فانه يعتمد مظهرا مكشوفا يشكل وظيفة النص المرجعية "كلما/ خرجوا في نزهة/ امتلأت السماء/ بالطائرات والقنابل المغفلة.. فهو يسرد وصفا يتعرض له الاولاد في حالة خروجهم للنزهة التي تفسدها الطائرات والقنابل المغفلة ، ولعل السطر الاخير في النص قد اطاح بالشعرية وتوقف عند حدود الاخبار لأنه خاطب المتلقي بتعبير مباشر مألوف ، و نتيجة لكل ما يتعرض له الأولاد لوجودهم الجسدي والمعنوي فان الشاعر يرى فداحة الخسارة من وجودهم في الحياة ويعد انجابهم خطأ يرتكبه الآباء "أولادنا خطأ فادح/ ارتكبناه هنا/ سيقول لي شاعر/ يكتب عن الجميلات/ انك سوداوي / أقول له / هذا "شليلي"/ اعطني لحظة فرح /في تلك البلاد /لأرقص ...
ويشير هذا المقطع الى هيمنة الوظيفة المرجعية، إذ كل ما يرد فيه مكتشف وواضح دون ان يحقق الدهشة او الحساسية الشعرية المحفزة لخيال المتلقي وكان بالإمكان انهاء نص "أولادنا عند الجملة الثانية في المقطع "ارتكبناه هنا" ليمتلك ما تبقى منه استقلالية نصية ذو دلالة منفردة ، أي ان النص المستقل سيبدأ في جملة "سيقول لي"...... حتى جملة لأرقص .." اذ ان هذا المقطع الاخير الذي اقترحناه لا صلة له مع مقاطع النص الاربعة لا دلالية ولا موضوعية .فضلا عن الضعف في استخدام مفردة "تلك" في جملة "في تلك البلاد" اذ ان النص منذ العنوان ومقاطعه الاربعة يتناول موضوعة "أولادنا" المواجهون للانتهاكات فلماذا "تلك"؟ وهي اسم اشارة بعيدة لمؤنث البلاد . وكان من المفترض ان يستخدم مفردة "هذه" لتنسجم مع سياق الموضوع للنص الذي يطرح مجريات الواقع "هنا".
وفي نص "حياة تالفة" يستثمر النص المعطى اليومي لحياة المواطن العراقي الذي تهدد وجوده وأحلامه السيارات المفخخة والعبوات الناسفة وغيرها الى درجة ان هذه المظاهر قد اتلفت حياة المواطنين وبانتباهة شعرية يشير النص الى محاولات البحث عن حياة أخرى غير هذه الحياة "التالفة". . "مواطن / كان يروم الحصول / على بدل تالف/ لحياته ..".
ويكرس النص بنائيته ويتهيكل على هذا المعطى اليومي لحياة المواطن العراقي ليمتد تأثيره على مجمل الحياة بما في ذلك توقف الاماني والأحلام المشروعة وينتظرون "المخلص" .."المواطنون/ لا يشعلون النار / لتقر القرى/ ضيوفهم أشباح / حربهم اشباح/ اولادهم قرابين حروب .. وفي مشهدية مؤثرة يرسم صورا عديدة لمظاهر تلف حياة المواطن العراقي الذي لم يعد يمتلك مقومات النظر الى المستقبل بقدر ما يتمنى ان يمضي يومه دون موت "غرباء تصفعهم الاسئلة/ مطعونون في أرضهم/ ومطعنون في محنتهم /لهذا هم يملكون / حياة تالفة فقط ....
وتعد الجملة الأخيرة هي التحصيل الحاصل لكل معاناة المواطن العراقي .. وتجيب هذه الجملة على الجمل الاولى للنص وتعد مدلولا لها .
ولعل نص "صباح الخير أيتها الحياة" يجمل موقف الشاعر النهائي ازاء انتهاك واقع الشخصية العراقية وما يواجهه يوميا من كل عوامل الضغط النفسي وتهديد وجوده الجسدي . فالعنوان يشير الى المصالحة مع الحياة بدلالة التحية الصباحية واصرار الشاعر على المواصلة مع الحياة والوقوف بصلابة بوجه محاولات الاقصاء الوجودي والتمسك بالوطن والحياة "لن يتغير الطريق المؤدي الى الحرية/ اسلاكه شائكة
جدرانه/ وكلاب حرسهم/ هرواتهم / مياههم الساخنة/ عيونهم /.... حكمتي اليوم / ان احمل رايتي/ لن أشير للبحر/ الفرار لا يعني ابدا حريتي/ انت حريتي... لذا / متواصل مع الحياة/ معك/ حتى أصل......
ونعد وضع هذا النص في نهاية نصوص المجموعة انما هو ليكون موقفا من قبل الشاعر لمواجهة عوامل الانتهاك وما يتعرض إليه المواطن العراقي بصلابة وبروح تفوق كل تلك العوامل ليقف بوجهها مؤكدا على تواصله مع الحياة على الرغم مما يحصل حتى يصل الى مبتغاه ليعيش حياة كريمة .
واجمالا فان تجربة الشاعر رياض الغريب في ديوانه هذا "حياة في حقيبة" قد ارتكزت في جميع نصوصه على معطيات الواقع العراقي اليومي ومظاهره القاهرة لنفسية المواطن العراقي .واذا كان ذلك على مستوى المواضيع التي عالجتها النصوص فان بناء النص لدى الغريب قد اتصف بهيمنة الوظيفة المرجعية واعني بها الوقائع الحاصلة في المرجع/ الواقع والتي بإمكان المتلقي العثور عليها في البنية الاجتماعية.
الا ان هذه الهيمنة للمرجع قد جعلت اللغة في مستوى تعبيري مباشر وتقريري دون محاولة الاعتناء بالبنية العميقة للنص التي يحققها الاستخدام السيميائي والدلالي للغة باستخدام فنون القول البلاغية التي تمنح النص حساسيته الشعرية دون التوقف عند المستوى النثري السردي/ الاخباري الذي فقد في أحايين كثيرة صفة الادهاش.
ولعل هدف النص عند الغريب هو الاقتراب من الواقع وضخ نصه بالمزيد من مفردات الواقع ليقيم علاقة حميمية مع المتلقي الذي يجد في نص الغريب كشفا وافصاحا لتفاصيل حياته بكل مستوياتها. كما ان النص لدى الغريب كان يستهدف توصيل اكبر قدر من الشحنات والصيغ التعبيرية التي تخفي في تضاعيفها وبنيتها العميقة نصا آخر ثاويا لا يجد المتلقي صعوبة في التوصل اليه لبساطة وسهولة البنية اللغوية الحاملة لتفاصيل الوقائع .وهذا ما يميز تجربة الشاعر رياض الغريب منذ ديوانه - واقف في انتظاري وحتى ديوانه الجديد هذا "حياة في حقيبة" الذي نعده اضافة نوعية ومتراكمة على سبيل تكريس اسلوبه الشعري.