ادب وفن

العقل العربي مراثي الخطاب ومحنة السلطة / علي حسن الفواز

غياب الخطاب العقلاني يعني حضور الخطاب العصابي، خطاب الجماعة والأيديولوجيا، وغياب خطاب الحرية يعني تغويل خطاب الهوية وتمثلاتها. هذه المفارقات ظلت تثير جدلا واسعاً حول مرجعيات الخطاب والهوية، وحول علاقة الهوية بالسلطة والفكر والتكفير، إذ تلبّست هذا الجدل كلُّ تعقيدات العلاقة مع الماضي والتاريخ، وكلُّ أنماطِ الصراع التي تورطت فيها الجماعات العصابية، والتي أعطت مفهوم الحاكمية بُعداً نكوصياً تتبدى فيه صورة الهوية النقية، والقاتلة فيما بعد بوصفها هوية المقدّس والجماعة..
هذه المعطيات المتشظية تُعبّر- اليوم - عن سياسات وثقافات ومضامين أفكارٍ يُراد تسويقها وفرضها على الجمهور، والتأسيس على حمولاتها السجالية كصورة لسيسيولوجيا التغالب والفرض، تلك التي تكشفُ في جوهرها عن هشاشة الثقافي والمعرفي، وغياب المشروع النقدي مقابل حضور قهري لـ "الفكرة المتعالية" التي يطرحها الحاكم والفقيه والزعيم الحزبي بوصفها أنموذجا لوهم الفكرة التامة، فكرة الحاكمية في نصها وفي سلطتها..
فصل الخطاب عن مرجعياته الثقافية الإنسانية يعني تعويمه أولا، وخلطه مع أفكار الجماعات المهيمنة ثانيا، وبما يجعل فكرة الثقافة وفكرة الحرية وفكرة الحق خاضعة للتأطير النسقي الذي تصنعه جماعة معينة، حدّ تحميل هذه الأفكار توصيفات وتسويغات، تقوم على استيهامات "ظاهر النص" وفتاوى الجماعة، وبما يجعلها أكثر مركزة، وأكثر توحشا، وبالتالي أكثر بعدا عن القيم الأخلاقية للدين، ولحملة رسالته الإنسانية والحقوقية..
لكن الظاهرة الأخطر في هذا الفصل تكمن في التواطؤ ما بين السلطة وتلك الجماعات، إذ تتحول الحاكمية الى "ولاية أمر" و"ولاية طاعة" وهو ما يعني إخضاع الهويات الصغيرة لصالح تلك الحاكمية، مثلما يعنى فرض نمط معين للهوية "القاهرة" تلك التي قد تَلْبسُ لبوسات طائفية أو قومية أو حتى فقهية وبمرجعيات محددة، حيث تمارس تكفيرها العلني لهذه الجماعة أو تلك، أو قتل هذه الهوية أو تلك.
شكل الحكم/ السلطة هو الأكثر تعبيرا عن المحنة، لأن هذا الشكل يتمرس بجماعات الرعب، وبمرجعيات المقدّس، وأنّ اشتباك مفهوم الحكم مع مفاهيم الدولة والحرية والهوية سيكون نوعا من التكريس الاستبدادي لذلك الحكم والجماعة، وحتى صعود ما يُسمى بالتيارات الأصولية والجهادية لا يخرج عن هذا الفهم، لأن مفهوم الجهاد بمعناه التاريخي والشرعي يتطلب وجود "العدو الكافر" النابذ للإيمان، وهو شرط غير مستوفٍ لظروفه، لذا يأتي فرض الجهاد، وعلى وفق ما تطرحه الجماعات الأصولية لتأكيد فكرة الحكم/ ولاية الأمر، ولممارسة نوع من الطرد الشرعي للجماعات المنافسة..
منهجية الفرض الأصولي تثير الكثير من الأسئلة حول مفاهيم أخرى تتعلق بالانتماء والتعايش وقبول الآخر، بما فيه الآخر الديني والعرقي والطائفي، فضلا عن التفاعل مع الغرب المسيحي، والذي باتت الجماعات الجهادية تمثل تهديدا وجوديا له، لاسيما بعد الأحداث الإرهابية التي حدثت في باريس وبروكسل والمانيا.
العقلانية والنقد
السؤال الاشكالي هنا: مَنْ يملك الحق في الافصاح عن مشروع العقلانية؟ ومَنْ له الأهلية الكافلة لممارسة النقد، بدءا من نقد النسق وانتهاء بنقد الخطاب؟
هذا السؤال المُركّب يفتح الشهية لمواجهة سلسلة من التعقيدات التي يضطرب فيها العقل العربي على وفق ما يقترح توصيفه أستاذنا محمد عابد الجابري، هذا العقل أو نظام الفكر كما يسميه البعض يتطلب وجودا وفعلا وتمكينا، وأحيانا أطراً مؤسسية، وبخلاف ذلك ستظل العقلانية ممارسة عائمة، أو ضيقة الاستعمال، وفاقدة لشروط التأثير والقبول، وربما ستصطدم كثيرا مع التيارات الجهادية المؤمنة بهيمنة "النقل" في صياغة القدر الانساني وخضوعه، كما أن النقد، وهو ضرورة مهمة في آليات المراجعة والفحص، سيكون بعيدا عن فعل الحرية بوصفها ممارسة، وبعيدا عن تلازمات التجديد والتجاوز والمغايرة والاختلاف، والتي تفرضها أطروحات الحداثة والعولمة والنظريات والمناهج الثقافية، وهي بالضرورة جزء من مشغليات العقل الغربي، وجزء من أنساقه التي وضعتنا أمام مجال يقوم على تشغيل حقول معرفية مجاورة، وواسعة آخرها ما بات يقترحه أصحاب أطروحات النقد الثقافي. إذ يمارس هذا النقد وظائفه النسقية من خلال الكشف عن المضمر وهو كثير وفاضح في ثقافتنا العربي، وكذلك من الاشتباك الفاعل مع المعارف والمناهج الأخرى، ومن خلال استعادة الانسان بوصفه صانع المجازات والاستعارات الى الفعل الثقافي، بعد أنْ اقترحت النظريات البنيوية وأغلب المرجعيات الشكلانية موته.
الانخراط في الحداثة ومشغلياتها يحتاج الى الحرية، ويحتاج أيضا الى المؤسسة، والى النقد، بدءا من مؤسسات التعليم والتنمية والعمران، وانتهاء بنقد التاريخ والنص والمقموع والمسكوت عنه.. كما أن الحداثة تحتاج ايضا الى "الدولة القوية" اي الى النظام الحمائي المؤسسي الصياني، فالدولة الضعيفة كما يقول فتحي المسكيني لا تنخرط تحت لواء العولمة لأنّها ضعيفة فقط، بل أيضا لأنّها لا تملك برنامج حريّة تكون قادرة على تنفيذه. والسيادة لا تمثّل ركيزة إلاّ بالنسبة إلى "الدولة - الأمة الحديثة" عدم الانخراط في العولمة والحداثة، وحتى رفض العلمانية بوصفها نقدا للثيوقراطية وفصلا للسلطات يؤشر الهشاشة التي تعيشها الدولة العربية الضعيفة، تلك التي تبدو وكأنها فاقدة لشروط صيروتها، ولضعف جماعتها الحاكمة في ممارسة فعل المراجعة والنقد، وفي القبول بوجود المؤسسات الخارجة عن منظومتها، بدءا من الجماعة المدنية، وصولا الى القبول باستقلالية القضاء والمؤسسة الجامعة، وضمان حق المواطنة والحرية..
الشك الاسلاموي بالمغايرة، يضعنا أمام سطوة اليقينيات ورعبها الرمزي والمُسلّح، ويكشف عن غيبوبة للعقل أمام صحوة ما يسمى بالنقل الذي تفترضه مهيمناته وفقهه الجماعة، بوصفها القوة الصيانية لتداول الخطاب، خطاب الفهم، والحق، وكذلك خطاب الحاكمية، وأحسب أنّ هذا الافتراض، مسؤول عن شيوع أوهام استعادية مرعبة، بدءا من استعادة وهم التاريخ، وليس انتهاء بوهم استعادة ما يسمى الآن بـ "الدولة الاسلامية" بوصفها حلا مضادا للعلمنة والغربنة والأمركة، ولمواجهة تيارات التأويل والازاحة النصْية والجماعات غير المؤمنة بـ "فقه الجماعة والسنّة" التي يقصدها الأصوليون..
هذا الفهم قد يبدو عند البعض، وكأنّه تمثّلَاً لتلك الهيمنات المُحدَثة للجماعات الاسلاموية الأصولية، لكنه في الجوهر يحمل الكثير من السمات التي يتعالق الى حدٍّ بعيد مع إعادة قهرية للكثير من مظاهر انتاج الاستبداد الشرقي الذي تحدثت عنه الأطروحات الماركسية، أو تماهيا مع ما بدا مُكرسا في منظومة الاستبداد العربي/ الشرعي، تلك التي ارتهنت الى طبيعة النظم السياسية في الإمبراطوريات الاسلامية المعروفة، تلك التي حددت وجود الآخر داخل منظومتها بوصفه طائعا أو ذميّا دافعا للجزية، وأنّ حق النقد والرفض سيكون مروقا وزندقة وخروجا عن الجماعة والملّة..
غيبوبة العقل تعبير عن غياب النقد، وعن رفض الحداثة ومنجزاتها، وعن التعاطي مع أفكار التحديث من منطلق ما تمثله من ضدية للنمط، وللسلطة، وللجماعة، لاسيما الجماعة الطائفية التي بات تشظيها هو الخطر الماحق الذي يهدد بعض ما تحقق من منجزات خلال مرحلة نشوء الدولة العربية الحديثة في بدايات القرن الماضي.
أزمة الدولة.. أزمة العقل
قد يبدو صعبا ربط هذه الأزمات بعضها مع البعض الآخر، لكنها موجودة في حقيقة الأمر، لأن ما يحدث من صراعات ومن عنف، ومن تصعيد للرعب الجماعاتي يكشف عن تدهور في استعمال العقل بوصفه تعبيرا عن الفاعليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، مثلما يكشف عن رثاثة الدولة وضعف قدرتها على تأصيل مفاهيم السيادة، والحقوق والحريات، وهو ما يعني الضعف في انتاج "المجتمع" مقابل الانكفاء للعصاب القرابي الذي تنتجه الجماعة، ومن هنا يكون التلازم ما بين أزمة العقل وأزمة الدولة قارّا وواقعيا، لأنه يفترض الحماية ومنع احتكار السلطة/ الحكم، مثلما يفترض تأمين الحرية، وتامين حق استعمالها العمومي والخاص..
نحن منذ زمن نعيش هذه الأزمات، والتي تحولت - طوال عقود - الى مصدر مهم وخطير لإنتاج رعب السلطة، ولمؤسسة لتكريس القمع الفقهي، وفرض سياقات ضاغطة على إدارة ملفات الاقتصاد والأمن الاجتماعي والأمن التعليمي والأمن التنموي وغيرها، مقابل الغلو في إنتاج قوى جديدة تتسم بالتعالي والوهم والتوحش، فضلا عن ما بات شائعا حول فوبيا وإرهاب الجماعات وتكفيرها، إذ تحوّل هذا "الإرهاب" بمعناه النفسي والفقهي الى وسيلة لفهم الحاكمية، تلك التي تملك الشرعي عبر طاعة المريدين/ الأتباع، مثلما تملك الحق الشرعي في حيازة الثروة والقسوة وحق التصرّف بالقانون عبر سياقاته النقلية/ الشرعية.. وهذا ما انعكس على صورة الدولة العربية/ الاسلامية من خلال أنموذجها الثيوقراطي، ومنظومة حاكميتها، ونظرتها إلى مفهوم "ولي الأمر" ومفهوم "الشورى" ومفهوم "الآخر". هذا الأمر فرض واقعه من خلال العنف الذي تسوّقه الجماعات الأصولية عبر وسائل الإعلام، وعبر أنماط الترهيب داخل المدن التي سيطرت عليها تلك الجماعات، وعبر عنف التفجيرات التي حدثت في العديد من الدول الأوربية، فضلا عن انعكاساته على مجرى التعاطي مع ملفات تخص عمل المؤسسات الدينية ذاتها، وهيمنتها وآلية تطبيقها وتداولها عبر مؤسسة "الحِسبة" و"البصاصيين" وغيرها من أدوات القمع والقهر والاغتيال التي ذكرها ابن إياس الحنفي في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" والتي فرضت نفسها على الواقع السياسي والاقتصادي، وعلى الكيفيات التي يمكن بها ممارسة الطقوس الدينية، ووضع الحدود لها وعليها، أي أنها فرضت نوعا من المنطق العُصابي المغلق على تداولية الخطاب الديني، وقطع الطريق على الإصلاح والتأويل والجدل والمشاكلة، وهو ما أكده أيضا الباحث فتحي المسكيني بقوله: إن أكبر عمليّة توثين للإسلام قد قام بها أهله، أكانوا علماء أو دعاة. الإسلام السياسي إسلام أداتيّ بحت. وليس فقط أداة سياسية. بل حتى الإسلام الفقهي أو الصوفي أو الوعظي أو الرسمي هو إسلام أداتي. يتمّ استدعاء نصوص أو كتب أو مصنّفات أو أقوال اندثر عالم الحياة الذي أنتجها، وباتت مثل تماثيل لا تكلّمنا.