ادب وفن

الكتابة المختلفة / نضال القاضي

لا تبدو جملة مكتوبة, من كلمات وحسب, فثمة تخصيب في أرحام, وسَبْرٌ لإرجاءاتٍ طويلةٍ تمسُّ الذاكرة قبل أن تتلمّسَ النُظُم التي أنتجت اختلافها وشكّلت منذ أكثر من نصف قرن العتبة الأولى للتمرّد على رواسخ قارّةٍ فرضتْ أنساقها اللغوية وعكست على المستوى التاريخي أشكالا بطرياركيّة انتظم فيها العالم كوحدة من وحداتها سياسيا واجتماعيا وروحيا.
فهل شكّل هدمُها نسقا ً بديلا في ضوء موجّهات الخطاب الجديد؟ وريثما تتشبّع الأشياء بذواتها فيتحرّك النصّ في منطقة خارج حدود الذات المتعالية وتمثيلها المعرفي!,.. فيميت ويحيي ويعيد الى النشأة الأولى منفتحا على سواها!.. وبعمق يأخذ مداهُ تحت النظر أو غير منظور وطفولتهُ مغطاةٌ بسقوفٍ مركّبة تتعذّرُ معها استقامة الإضاءة فلا يُكشَفُ عن دواخلها وهي تتموضع زمنيّا وفي فضاءات متباينة بحسب ديفيد لوج - الفنّ الروائي.
فهل للعمق شكل؟!.. بعدُ, إذ لم يعد الشكل طلاءً على سطوحٍ ملس, بل هو لا شكل له! وبإزاء امتداداتٍ للغوص في المضامين وقصديّة ٍ في التلقّي مع قارىء نخبوي، قاريء متناصّ "متفاعل يستحضر حصيلة مقروءاتهِ ومسموعاتهِ فيقارن ويحلّل ويستنتج ويتناصّ مع ما يقرأ" بحسب ماأوردهُ د.سعيد يقطين في مقالهِ الموسوم (القراءة المتفاعلة), ما يوفّرُ حتما الفرصة لاستثمار الإلتقاء على مساحة من زمانٍ ومكانِهِ، راهن وماضيهِ, ما عاد أيّ منها مؤسِّسا بقدر ما هو عتبة لتأويل مُعارِض أو متقاطِع مع بِنىً متضخّمة غير مبرّرة، غير مُجْدِية، وقد نفدتْ صلاحيّتها في ظلّ تلاحُقِ أحداثٍ ومُجرياتٍ بسُرَعٍ فائقة حققتها ثورة المعلومات ووسائل الإنتشار الواسعة والمتقدّمة، والتي في المقابل وكتحصيل حاصل سلْبا وإيجابا، أنضجت حركةً الدلالات داخل النصّ مقرونةً بقراءة إطاحة وتقويض ومتشكّلةٌ ذاكرتُها جنبا الى جنب مع تدفّق الدلالات ذاتها، وبحسب القوانين الطبيعية للاستمرار، فلا هما يبتدئان معا ولا هما منتهيان بانتهاء النصّ.
هذه الآليّة تصفها المنهجيّات الحديثة بأنها (التناقضات الداخلية وتحذر من تبسيطها واختزالها) كما ورد وصفها درفي الكتاب القيّم "دريدا.. ما الآن؟ ماذا عن غد؟" للدكتور محمد شوقي الزين, ليكون الصراع وتحوّلاتُهُ الخيارَ الذي يُقرِنُ الحياة بالتواتر والتغاير دامغا المفاهيم والعلاقات بخصائصهِ فجاءت الأسطورة في وقتها كوعي مقابل بالضرورة, ليس إلى نوع القربان المنذور, بل إلى جدليّة الرفض والقبول التي غذّتْ الصراع وخلُصَتْ إلى أثرٍ حقّق له زمانُهُ آنذاك كينونتَهُ وهويّتهُ, حين انتزعهُ كعلامة من حقلٍ بِكْرٍ شديد الحرْث.. وحوّلها.
الكتابة المختلفة إذن قراءتُها رأساً على عقِب! وبقدر ما ينطوي عليه عنصر الإختلاف, كأحد أبرز توظيفات المناهج الحديثة, من إزاحة, واختراق للعلامة, وتوليد للأثر, وتأجيل للمعنى ليكون الهدف في ستراتيجية التحرّر والإنفلات من الخوانق الهرميّةِ التي تميّز التراثَ الفلسفي عموما منذ افلاطون وحتى دي سوسير, شغبا يخلخلُ القارّات ويتعاطى التاريخ في جرعات بصلاحيات مؤقتة تمنح اللامركزية امتياز تواصل, ولا قصديّة تشتقُّ قصدها حتى يتشبّع الموقف باتساع شاسع من الدلالات ينفي وقوعَ الشيء على صورتهِ بل على صورة النصّ وقوع خالقٍ بلا أبعاد.. آهِلٍ بغبارِ هَدْمٍ بعيد.. آلاف الآلاف من سنوات إنسانٍ ومحنتهِ.