ادب وفن

في صناعة التوأمة / وليد جاسم الزبيدي

تطلّ علينا الشاعرة والروائية المغربية الدكتورة فاتحة مرشيد بروايتها "التوأم" كشريطٌ سينمي، تتوافرُ فيهِ شروط العمل الفني المتكامل، حيث الحوارُ المُتقنُ، والسيناريو، وحركة الكاميرات، التي تجعلك ترى الأحداث في كل الاتجاهات، بل وبعدسات ثلاثية الأبعاد، وتسمعُ مع كل حوار وصورة مكان، موسيقى تُعبّرُ عن قيمة وثيمة الحدث، وحتى وصف الملابس والاكسسوارات للممثلين، كلّها مؤشّراتُ عملٍ إخراجي لمخُرجٍ عالمي محترف. وحالما تبدأ بقراءة الرواية، تشعر أنك دخلتَ الى صالة العرض، فتُطفأ الأنوار، ويتوجهُ نور آلة العرض إلى شريط السينما على قماشة العرض على الجدار، فتسترخي، وتنصتُ وتتابعُ منذ الوهلة الأولى حيثُ يبدأ الفيلم بسؤالٍ كبير : منْ أنا؟
هذا هو خطّها ونهجها في كتابة الرواية حيث تجدّ الروائية في تسليط الضوء على مشاكل مجتمعية محتدمة ومثيرة للجدل، خصوصاً حول أبناء بلدها وما يعانون من صعوبات ومشاكل جراء قوانين دول المهجر، خصوصا فرنسا، فتتوزّع مسارات الرواية بين: المدن، اسماء الأعلام في مختلف أبواب الثقافة والفنون وتواريخ وظواهر مجتمعية، منها : ظاهرة الشيبانيين، ظاهرة التوأم، ظاهرة ستندال، ظاهرة تبني الأطفال، حياة اليهود وتاريخهم في المغرب. وثمّ أقوال المخرجين والممثلين والكتّاب.
المخرج
ولكن لماذا المخرج؟ لقد اختارت الروائيةُ المخرج بطلاً لروايتها، لأسباب، أولّها أنها تعشقُ السينما وليس العشق وحده، بل ثقافة سينمية واطلاع كبير على العمل السينمائي والدخول في دقائق أموره وتقنياته المتنوعة، وكأنها واحدة من صنّاع هذه الحرفة، كما أن المخرجَ يرى بعينهِ وفكرهِ وخيالهِ الواقعَ حياةً تعيسةً وسيئةً لم يحبّها، لذلك يخرجُ من الواقع، ليخرجَ ، من بنات أفكارهِ وخياله وعلميتهِ، أفلاماً وأشرطةً تُبنى وفق ما يريد ويشتهي ويُحبّ، وتكونُ بيدهِ خيوط اللعبة، لوضع الحلول والبدائل لمشاكل مجتمعية، بل ويبتكرُ أحلاماً وحيواتٍ وعوالمَ يكسرُ فيها حاجز الواقع المفروض عليه نحو جمالٍ يرسمهُ بلوحاتٍ ولقطاتٍ وإثارة . كما يرى في أقوال واحد من المخرجين، فريديريكو فيليني الذي يقولُ: "أخفقتُ في إخراجِ حياةٍ تلائمني فاتّجهتُ الى إخراجِ الأفلام".
كما تُشبّهُ الروائية عملية المونتاج على لسان مخرجه:" وقاعةُ المونتاج تشبهُ قاعةَ العمليات لجراحةِ التجميل، فيها يصبحُ القبيحُ جميلاً، والطويلُ قصيراً، والخشنُ رقيقاً ، كما أنها تصفُ المخرج قائدَ أوركسترا ، والممثلين عازفين كلّا على آلتهِ يبرعُ في استخدامها ولهُ مع آلتهِ قصةٌ وتاريخٌ وولعٌ.
وتضمنتِ الروايةُ - الفيلم، أسماء مخرجين ومنتجين وممثلين وروائيين ومشتغلين في فنون متنوعة، تنمّ عن سعة ثقافة الروائية ومقدرتها على تطويع هذه الأسماء من دول وجنسيات وديانات وثقافات مختلفة، وأقوالهم في خدمة الرواية.
المكان في الرواية/ الفيلم
تنقّلت كاميرات الروايةِ - الفيلم في مواقع متعدّدة وأحياناً متباعدة، ولكنها مرسومة بدقة وذكاء وفق خارطةٍ رسمتها الروائية لحركة الممثلين وحسب الأحداث، وربطت بين المكان والحدث، ومن هذه المدن والدول: باريس واليونان وبرشلونة وفلورنسا وايطاليا.
واجتهدتِ الروائيةُ في جعل الرواية - الفيلم تنسابُ في ذات المتلقي وقلبهِ وفكرهِ وألاّ يتسرب الملل إلى داخله، فنوّعتْ وتنقلّتْ في مواقع ومدن متنوعةٍ جغرافياً وتاريخياً وبيئياً وثقافياً، كما جعلت في الرواية أماكن تضيفُ جماليةً إلى الأحداث في مواقع لمتاحف، ومراسمَ، ولوحات، منها: متحف اللوفر وتمثال جزيرة ميلوس اليونانية ومتحف بيت الشاعر دانتي اليغييري وأبو اللغة الايطالية ومتحف بيت مايكل انجلو المسمى "بيت بوناروتي" وغيرها.
أسماء الأفلام
حرصتِ الروائيةُ في روايتها - الفيلم على ذكر عناوين أفلام على لسان مخرجها، ترتبطُ بأحداث درامية في الرواية ، بل هي اجابات لأسئلة أو لتوضيح مشهدٍ يرتبط بحيثيات ومدلولات الفيلم المشار اليه، ومن هذه الأفلام: فيلم شارلي شابلن "الأزمنة الحديثة" وفيلم المخرج فيدريكو فيليني "الثيران" وفيلم كولين كوستنر "لمَ لا".
الميثولوجيا
تضمنتِ الروايةُ اشارات لرموز الميثولوجيا، أضافتْ سحراً ورومانسية، وأجواء من التصوّف بمفهومه الحداثوي، ومن هذه الإشارات:
الآلهة الإغريقية: فينوس "فينوس ديملو- فرنسي"، افروديت اليونان، آمور- كيوبيد- بسيشيه وغيرها.
وعالجت الرواية ظاهرة الشيبانيين: وهي ظاهرة اجتماعية اقتصادية، تحاولُ الروائيةُ تسليط الضوء عليها، بل وطرحها أمام منْ يهمهُ الأمر من أصحاب القرار لوضع الحلول لها، بل وللتنبيه ودق ناقوس الخطر لما تترتب عليهِ هذه الظاهرة، كما فعلتْ في روايتها "مخالب المتعة" التي طرحتْ مشكلة البطالة للشباب في المغرب العربي، وما يعانيه الشباب في دول أوربا وفي فرنسا خصوصاً، وهذه المرة تطرح مشكلة أخرى يعانيها أبناء بلدها في فرنسا. وهي مشكلة المهاجرين المتقاعدين وما يعانون منه حتى آخر رمق في حياتهم بالتواجد في بلد المهجر، وبخلافه، يتم حرمانهم من تعويضات التقاعد واستحقاقاتهم المالية والتمتع بالتأمين الصحي، مما أدى الى انتحار عدد من المهاجرين ، وحرمان البعض الآخر من هذه الامتيازات في حال تركهم بلد المهجر بعد التقاعد والرجوع الى بلدانهم. وفي ذلك تقول الرواية :"ففي الوقت الذي يختارُ بعض المتقاعدين الفرنسيين العيش في المغرب لما يتيح لهم من جودة الحياة تحت شمس كريمة. يُحرمُ المهاجرون المتقاعدون المغاربة من العودة الى بلدهم بسبب قوانين لا تحترمْ أبسطَ حقوق الانسان".
ظاهرة ستندال:
وقد سُميّت هذه الظاهرة بـ "ظاهرة ستندال" أو "متلازمة ستندال"، لكون الكاتب الفرنسي المشهور "ستندال" هو منْ تحدّثَ عنها لأول مرة وقد أصيبَ بنفس الأعراض بعد زيارتهِ الكنيسة سنة 1817، وهي حالة تصيب السياح، وناتجة عن حساسية بعض الناس أمام طفرة الجمال الذي تزخرُ بهِ "فلورنسا". وكذلك لتعرض الانسان الى كمية كبيرة من الاعمال الفنية الباذخة الجمال تثيرُ فيه انفعالات قوية ومشاعر حادّة لا يقوى الجسد على استيعابها كلها فيصاب بالدوار وارتفاع دقات القلب والغيبوبة وأحياناً أعراض الاكتئاب، وأنها تصيبُ خاصة الأشخاص الذين يتمتعون بحساسية مرهفة.
ظاهرة تبنّي الأطفال:
وهي ظاهرة دخلت الوسط الفني، وذلك لانشغال الممثلين والفنانين بأعمال تؤدي الى عدم لقائهم ، وقد طرحتها الروائية في أحد مقاطع الرواية، "في أمريكا يتبنى نجوم السينما أطفالاً من كل انحاء العالم، لينقذوهم من ظروف فرضت عليهم، وهذا الشيء رائع إنسانيا. أنظري مثلاً الى أسرة أنجيلينا جولي وبراد بيت وأبنائهما، وأتساءل لو فعلَ كل ذوي الإمكانيات المادية مثلهم لكانت الطفولة بخير.
ظاهرة التوأم:
"التوأم" عنوان الرواية، ولأنّ الروائية هي طبيبةُ أطفال، ومهتمة بشؤونهم حتى دخلوا في حياتها المهنية والاجتماعية، ودرستهم وشرّحت كل الحالات الطبيعية والشّاذة طبياً، وعاشرتهم علمياً وانسانياً، لذلك وضعت هذا العنوان الذي تستطيع من خلاله التحليق وتتفننّ بمهارتها لعرض خزينها بل وتؤطر الرواية بمعلومات علمية ونفسية، وقد خلقتْ في الرواية أكثر من توأم ليظل الموضوع يتصاعد هارمونياً مع الأحداث الساندة والحوارات ومجريات السيناريو والمكان.
الروائيةُ تقولُ على لسان المخرج "بطل الفيلم": يبدو أن الجنينين يتواصلان داخل بطن الأم ابتداءً من الشهر الثالث، فعندما يخرجان الى العالم يكونان قد تقاسما نفس التاريخ ونفس المعاش داخلَ الرّحم. وهذا ما يشرحُ علاقتهما العاطفية الوثيقة وعلاقة توارد الخواطر بينهما. بحيث إذا أصيبَ أحدهما بوعكة فالآخر يحسّ بنفس الألم. وحتى عندما يكونان بعيدين عن بعضهما بمسافةٍ طويلةٍ فهما يتألمانِ لنفس الشيء وقد يعيشانِ نفس التجارب عن بُعد.
ويضيفُ "مراد/ المخرج": كُنّا نجلسُ جنباً الى جنب داخل القسم وذات مرّة أصرّ أحدُ المدرسين على تفريقنا فكانتِ النتيجةُ أن ضعُفتْ محصلاتنا الدراسية فما كانَ عليهِ إلا جمعنا من جديد.
وتصفُ الروائيةُ حالةً أخرى من الحالات الطبية والنفسية للتوأم على لسان بطل الرواية: فتحتِ الكتابَ وإذا بها تقرأ جهراً شهادةَ جدةٍ فَقَدَ حفيدُها أخاهُ التوأم في اليوم الذي تلا ولادتهما. تقول الجدة: أنا أحبّ حفيدي بشدّة وأنا جدُ قلقة لأنهُ وهو الآن في سن التاسعة ، وبالرغم من كونهِ لا يعلمُ شيئاً عن وجودِ أخيهِ التوأم، بدأ يحدّثني عن طيفِ ولدٍ في مثلِ سنّهِ يزورُهُ ليلاً ويتحدثانِ معاً، وأنهُ صديقهُ الذي يحكي لهُ عن كلّ شيء. أخذتُهُ الى طبيب نفساني، قالَ: بأنّ دماغَهُ قد سجّلَ وجودَ هذا الآخر أثناء الحمل وأنّ علينا أن نخبرّهُ الحقيقة.
وهكذا نجدُ الروائيةَ قد اتخذت من الحالة الطبية والنفسية لصورة وظاهرة التوأم لتضعها بصورة رواية-فيلم. وكانت صور التوأم تتجسد في:
1- مراد + منير = "توأم – ومراد هو المخرج".
2- نادية + نور = "أختان لكنهما ليستا توأم، بل فقدتا الأب والأم في طفولتهما فأصبحتا متلاصقتين بالروح ، والتفكير والاهتمام".
3- طيور الحب "التي أتى بهما مراد هديةً الى نور وهما توأم".
4- وائل + جاد = "ولدان توأم ، أمهما نور".
5- المغرب + فرنسا = توأمة مدينتين، لطالما نجدهما في روايات وأعمال أدباء المغرب العربي، تتقاسمان الأحداث والشخوص والأعمال الفنية الرائعة.
ولي أضافة متواضعة في صور التوأم، فقد وجدتُ توأماً يعيش ويكبر مع كل صفحة و"كاستينج" في هذه الرواية ، وهما: الروائية والمخرج، فهما توأمان من فكرٍ واحد، وخيالٍ واحد، فما تحسهُ الروائية وتتألم بسببه أو تفرح لسبب آخر يحسّهُ المخرج ويفعل بمثل ما تريدهُ وتتمناهُ وتحسّهُ الروائية. إنهما التوأم المجهول الذي تظل ظلالهُ تتصاعد وتنمو على مدار الرواية - الفيلم، ويكتشفهُ القارئ بعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم وفتح أنوار القاعة بعد خروج كلمة النهاية للفيلم.
روايةٌ مبهرةٌ بتقنيات سينمية ومعالجة درامية ذكية، تستحق القراءة والوقوف عندها، بل تقول لكل سينمي إنني بين يديك جاهزةٌ في حوار وسيناريو وكل شيء ، وما عليك إلا التنفيذ ليكون شريطاً يشاهدهُ الناس ويستمتعون به.