ادب وفن

يوتيبيا المكان وجغرافية التاريخ في قصيدة (لغز حواي) للشاعر حسين جهيد الحافظ / ماجد كاظم علي

نشرت جريدتنا الغراء طريق الشعب في عددها82 في 21/12/2016 قصيدة (لغز چواي) للشاعر حسين جهيد الحافظ.
تتوزع قصيدة (لغز چواي) للشاعر حسين جهيد الحافظ بين جغرافية التاريخ وتاريخ الجغرافية فقد وردت فيها الكثير.. الكثير من العناوين والرموز ومعظمها تحمل في صفاتها طيبة وأخلاق أهل المدينة وصدقها وصفائها ونبلها في تلك السموات الغابرة التي عشناها بحب كبير, التي كان فيها الجار أخاً لجاره ويمثل أهل بيته في غيابه.. وربما أكثر.. وقبل أن تمتد يد الغدر والكراهية التي أشاعها جرذان البعث المقبور في العراق ودمروا فيها الأخضر واليابس وسرقوا قيم الناس وأهانوا كرامتهم ودمروا حياتهم وأرجعوا العراق عقوداً طويلة إلى الوراء بعد أن قلعوا الطيبة من أعماق الناس واحرقوها وأحلوا الكره والقتل والدمار بينهم بحيث أصبح الإنسان يخاف من أخيه وصديقه وأبنه وحتى زوجته من أن يهمس في أذنها كلام الطاغية وخفافيش العهر والدمار والظلام, فقد أصبحت للحافظ آذان هو الآخر ليستمع لما يدور في غرفة النوم بين الزوجة وزوجها:
ما بين هيله وبين ليله
وما بين حنّونه وأم اِسمير
واِطشوت اللبن
اِسنينه يمشن هدر
بيهن يعد بس محن
الوحشه صارت هله
والغربه صارت وطن
ان الشاعر حسين جهيد الحافظ يبدأ قصيدته (لغز چواي) بهذه الضربة القوية التي تكشف عن رمز القصيدة وبعدها الأسطوري سواء كان في جغرافية المكان أو تاريخ الأحداث المؤسفة التي شوهت وجه المدينة يوم اعتلاها الأغراب ودمروا كل القيم والمبادئ والأخلاق التي كانت تتميز بها كمدينة جنوبية يحمل أهلها الطيبة المعروفة عنهم.
ان الشاعر يتساءل كما يتساءل أهل المدينة عن هؤلاء الوافدين الذين يفترشون الشوارع بين فترة وأخرى, من أين جاءوا؟ وأين الدروب والمدن التي دفعتهم إلى المدينة ليعكروا صفوها وهدوء أوقاتها.
من أين جاء (چواي) (وشكر أحمر والأخرس وعمي جوعان وغيرهم؟ والذين يتساوون في قذارتهم وتصرفاتهم في العلن, لكنهم والله أعلم ربما يتساوون في أفعالهم والهدف من وجودهم في هذه المدينة في السر.
أهم تركة المدن الأخرى التي لفظتهم وطردتهم إلى هذه المدينة التي جاؤوها بدون مقدمات كما اختفوا منها بدون سابق إنذار. ربما هذا أو ذلك وربما هم تركة الدول المجاورة والبعيدة التي ملأت أساطيل جيوشها أرض العراق منذ آلاف السنين.
ظل چواي لغزاً يشك فيه الكثيرون وخاصةً المثقفين من أهل المدينة الذين هم أكثر قرباً من غيرهم لمثل هؤلاء.. ولكنهم أيضاً كانوا لا يتفقون فيما بينهم عن مصدر مجيء هؤلاء:
چوّاي يا چوّاي
يالشايل اِبخلگك زمن
حط الرحال اِستچن
يا كافي كثر أسئله
اِمنين اِنته اِمنين ؟
يا ياهو اِنته ؟ ومن ؟
واِشكثر بعيونك شجن ؟
چوّاي يا چوّاي
يا مدري يا نكتة وكت
اِبوكتك چبير الوكت
فرحة عمر
مرجوحه وضحكة زغر
زرگة اِعيونك لغز ما ينحزر
لقد كان أهل المدينة الناصرية يعيشون الحب والطيبة والوفاء والإخاء بصورة لا يمكن التعبير عنها قبل أن يأتي زمن الوحوش العفالقة الذين قتلوا كل طيبة في المدينة وأحرقوا اليابس والأخضر.. حتى أن الناصرية ما عادت هي تلك الناصرية الحبيبة التي نعرفها بعد أن
غزاها الأغراب.. ولا يعرف أهلها من أين تأتي الطعنات لهم.. فجأة ويعتقل العديد من شرفائها بعدد يربو على الخمسين أو أكثر ويتكرر ذلك كل ثلاثة أو أربعة أشهر.
ان چواي هذا ليس أشارة إلى رجل واحد لكنه رمز لكل الذين شوهوا وجه المدينة وأرقوا لحظات هناء لياليها.
زرگة اِعيونك لغز ما ينحزر
شايل معاني اِشكثر
حب وتصافي ووفه
شرطه وجواسيس وغدر
واِسنين عمرك تمر
حيه ودرج
ورغم العسر والعسر
رغم الألم والجفه
وحزن البيوت الطين
بيهه الأخو چان اِخو
وچانت العشره دين
أن (چواياً) هذا ظل لغزاً محيراً للكثير كما هو لغز الأخرس وشكر أحمر وعمي جوعان وغيرهم.. رغم أنهم نالوا الأذى الكثير.. الكثير من أطفال المدينة وهم يسحبونهم أو يرمون وراءهم الحجارة أو يدفعونهم ويضربونهم أو يرفعون ثيابهم لكن الكبار كانوا أكثر عطفاً عليهم فقد كانوا يقدمون لهم ما يطلبون وخاصة الطعام والشاي والنقود والملابس ويطردون الأطفال وينهرونهم ولكن بالمقابل ماذا قدم هؤلاء إلى المدينة غير الاعتقال المفاجئ والقتل والتعذيب والاختفاء من على وجه الأرض وإشاعة الاضطراب ومهاجمة زوار الفجر من رجال الأمن وأزلام البعث إلى البيوت الآمنة لإرهاب الأمهات والأطفال.
لقد كانت مدينة الناصرية مفخرة لأهلها ولكن أهلها أصبحوا الآن أقلية بعد أن انزوى الكثير منهم في زواياهم المنسية إلا القليل منهم الذين أصبحوا لاجئين فيها وشكلوا جمعية لأبناء المدينة, فهل هناك في أي منطقة من العالم يشكل أهلها الأصليون جمعية فيها لأبنائها؟ مجرد سؤال.
مدينة الناصرية كانت من أجمل المدن في العراق فيها أجمل فجر وأجمل غروب حيث الحدائق والبساتين والمياه التي تحيطها وشوارعها المستقيمة المنسقة التي نعتز بها وشارع النهر الذي يتراقص الصفصاف فيه والنهر الذي تمتلئ مياهه بالمراكب التي تحمل الخير وتعمر موائد الفقراء وشارعه الذي يمتلأ بالكازينوهات والشوارع النظيفة الباردة التي ترش بالمياه مرتين في الصيف لكي تكون عصراً ملجأً لأهلها الذين يخرجون عن بكرة أبيهم من بيوتهم أي جمال كانت تشيعه في داخلنا مدينة الناصرية؟
وأين الهواء العذيبي الذي ينعش القلوب قبل الوجوه كما تقول جداتنا؟ لا بل أين اللبن والخريط وجبن الگصيبة والقيمر وسمك البني الگطان والشبوط والخشني الذي يباع كل مائة بعشرة فلوس؟ ذهب كل ذلك مع التدفق من الحنو الذي تغذقه المدينة على أهلها وهل هنالك مدينة في العالم أشبعت أهلها كما الناصرية؟ لا أتصور ذلك أبداً فقد كانت المدينة تصدر يومياً ما يربو على خمس سيارات كبيرة من السمك إلى مدن العراق الأخرى, فهل نحن جياع وأقدامنا حفاة تسكنها اليرابيع ورائحتنا قذرة يا إمام البعثيين القذر (هدام صبحه), لقد كان الكرم عندنا كرم حاتم الطائي لا بل أكثر منه والغريب عندنا ابن الدار وهو الذي يبكي حينما ينقل منها رغماً عنه كما بكى حينما جاءها منقولاً إليها وحينها كان حاقداً عليها أول الأمر.
ان الشاعر حسين جهيد الحافظ وهو يعانق قائد الحركة النضالية الوطنية الحزب الشيوعي العراقي بدون منازع إنما يستلهم كل قيم النضال الخالدة التي قدمها الشيوعيون على طريق الشرف والكرامة والكبرياء والإخلاص للوطن ولثقافته ومحاربة المستعمر البغيض والظالم المتجبر, فمن خلال المناضل الشهم المرحوم مله طالب الخياط ينهض الشاعر صارخاً:
والمله طالب وطن
اِبدمه الوطن شريان
ما عرف يوم الدغش
بس يعرف الاِحسان
دينه الوفه ومبدأه
بس خدمة الاِنسان
خيّاط بس بالاّسم
عالم ورع فنّان
چوّاي يا چوّاي
يالوكتك وكت
حته الحزن بيه فرح
وعاشور بيه العيد
ورغم الألم والألم
چان الغنه ترديد
ان شواهد الناصرية من أشخاص ومحلات وشوارع مملوءة بالطيبة والصدق والوفاء وهي تهب جميعاً وحتى حجارة الطريق الى مساعدة المحتاجين واحتضان المهجرين والمبعدين وما أكثرهم في الناصرية آنذاك.
في الناصرية لا خطبة تظل طويلاً بدون أن تنتهي إلى زواج (ولا جنازة تظل مطروحة) كما يقول المثل الشعبي المألوف ولا مشكلة تستعصي على أهلها بدون أن تجد لها الحل السريع والمقنع , فقد كانت المشاكل والحاجات تتناولها القلوب والجيوب قبل الأكف والألسنة.
لقد كان الحب ولا يزال في أعماق قلوب أهل الناصرية ومن بقوا أحياءاً منهم كما هو لم يتغير أبداً فان الأحضان والقبلات سرعان ما تستقبل عندما يلتقون في الطريق.. رغم الدمار الذي أشاعه الأوباش حتى أن المدينة ما عادت مدينة الحب الكبير فهي مدينة الأشباح لأهلها بعد أن اختفوا من شوارعها.
ان (چواي) ليس أشارة إلى رجل واحد لا بل هو يمثل كل السوء الذي لحق بالمدينة مهما كان مصدره
الجار عدهم جار
والوطن عدهم وطن
وحب البشر بالأصل
ديدان واِلهم طبع
چوّاي يا چوّاي
اِولاية أهلنه صدگ
اِولاية محبه ووفه
واِنته اِتعرفنه صدگ
لا تحچي بالعاطفه
اِولايتنه وعليك الله
اِولايتنه واو..وفاء
اِويه الهاء يعني الوفه
الناصرية منهه ونعم
للدنيه طشت وفه
الناصرية أم الوفه