ادب وفن

حوارمع المترجم والشاعر العراقي قحطان جاسم / حاوره عبد الواحد مفتاح

يعتبر المترجم والأكاديمي العراقي المقيم في الدانمارك جاسم قحطان، أحد المترجمين العرب المشهود بغزارة إنتاجهم، حيت حيث عمل طوال مساره على نقل عدد غير يسير من الكتب الفلسفية والأدبية للعربية، خاصة عن اللغة الدانماركية والإنجليزية، وهو إلى ذلك شاعر وباحث في علم الاجتماع السياسي، له إسهام واضح منذ عام 1977 حين بدأ نشر أولى مقالاته في إغناء المكتبة العربية، بعدد من الترجمات الهامة.
فصاحب ترجمة (شوبنهاور مربيا) و(منتخبات للشاعرة الدانماركية لولا باديل) انخرط منذ وقت مبكر بإمداد العربية بؤلفات فلسفية وشعرية قيمة، صار بعضها علامات بارزة في منجزه.
في هذا الحوار نقترب أكثر من عوالم جاسم قحطان، ونفتح وإياه نقاشا حول قضايا تظل لازمة في منجزه،
صدر لك مؤخرا ديوان شعر )آن الذهول(، الديوان الذي لقى ترحيبا نقديا، نرى أن أسلوبه يخلتف عن ديوانك "تجليات العزلة " السابق مثلا ..إلا أن هناك ثابتا وحيدا هو قصيدة النثر ، ما مرد هذا الإقتناع الكامل بهذا الجنس الشعري؟
- لا أريد أن اسمي هذا الترحيب ترحيبا نقديا، فما طرح عن ديواني الجديد هو بعض القراءات السريعة التي لا تمس حقيقة التجربة الشعرية في الديوان أو نصوصه أو ثيماته. للأسف النقد الشعري عندنا قاصر، ولهذا يقف الشاعر من تجربته في حيرة .. فكل شاعر ، مهما كانت خبرته وتجاربه ومستوى طموحاته ، لا يمكنه ان يتخلى عن ردود فعل القارئ، خاصة إذا كانت هذه الردود تتسم برؤى نقدية تغوص في النص الشعري، رغم أن أيّ شاعر جاد لا يكتب وفي رأسه قاريء محدد.. بل يكتب لأنه يرى في الكتابة نوع من الخلاص الفردي من عالم يشوبه الاضطراب والخراب والخوف والزيف.
أما سبب الاقتناع بقصيدة النثر، فإنني أجدها الشكل الذي يتيح لي حرية أكبر جماليا ومعرفيا. الشاعر لا يكتب مقالة او يصوغ خطابا سياسيا فيتبع مقاييس محددة، الشعر يعني الحرية ، حرية أن ترى الألم بعين أخرى وتلمس بأحاسيس مغايرة. هذه الحرية هي التي قادتني إلى قصيدة النثر، لأنها تهدم كل الموانع التي قد تحد من حريتي في التعبير، عن رؤاي وأحاسيسي، كإنسان وكفرد يتفرد في ألمه وأفراحه وتصوراته عن الوجود والكون والله.
ترجمة كتاب " شوبنهاور مربيا" لفردريك نيشته، كيف تعاملت مع لغة الترجمة خاصة مع ما نعرفه من الصعوبات الجمة التي لاقت أغلب مترجمي نيتشه للعربية؟
- الترجمة كما أشرت في أكثر من مكان، هي نوع من الحرث في أرض صخرية وعرة، إنها المشي على أرض ملغومة .. ترجمتي لهذا الكتاب، وكل عمل قمت بترجمته سواء مقالة أو كتاب منذ عام 1983 بداية نشري لترجمة مقالات في الطليعة الكويتية، وما بعدها في الثمانينات في الصحف الفلسطينية وغيرها، هو نوع من الحب . أنا لا أترجم إلا إذا أحسست نفسي قد وقعت في ما يشبه قصة غرام مع المقالة او الكتاب او القصة المترجمة، ولهذا أرفض دائما العروض التي ترد لي من دور النشر بخصوص ترجمة نص ما تحدده الدار ذاتها مسبقا.. لقد حصل نفس الامر معي مع كتاب فردريك نيشته " شوبنهاور مربيا "، فبعدما انتهيت من قراءته، وقعت في عشق هذا الكتاب، لانه يفتح بابا جديدا لفهم عالم نيتشه. بحد طبيعتي أنا أخاف عندما أترجم، وأشعر أنني مسكون بحالة رعب، ولهذا أقوم بتقليب والنظر إلى كل كلمة من زوايا متفرقة، قبل أن أعيد صياغتها إلى العربية. الترجمة ليست نقل كلمة بكلمة او صياغة ذاتية للمادة المترجمة ، بل هي غوص في عالم الكتاب الأصلي، وتتبع أفكار المؤلف وقراءة عالمه، والسياق الذي صدر فيه العمل تاريخيا ومعرفيا. ولذلك تراني عندما قمت بترجمة كتاب نيتشه فإنني باشرت بقراءة العديد من الأعمال والدراسات حول هذا الكتاب المنشورة بأكثر من لغة. واعترف أنني راجعت هذا أكثر من ثلاث مرات، وقارنت النص بأكثر من لغة منقولة إليه، حتى اقتنعت أخيرا بدفعه إلى النشر.
ترجمت بعضا من أعمال المفكر الدانماركي الوجودي سورن كيرككورد للعربية، من لغته الأصلية التي كتب بها قبل 200 عام، واشتغلت على مقالاته ومقولاته الأساسية في عدد من دراساتك و وأبحاثك، كما انه سيكون، كما أعلنت في مقابلات أخرى، مشروع حياتك ..لماذا كرس قحطان جاسم جهوده بالذات لسورن كيرككورد وفكره بحثا وترجمة ؟
- سورن كيرككورد مفكر عظيم ، أراه مهملا عندنا، وما قدم عنه من إصدارات قليلة جدا لا يتجاوز عدد الأصابع، وهي إصدارات أصبحت بفعل الزمن قديمة وفقدت جانبا كبيرا من قيمتها العلمية والمعرفية. وما قدمته حتى الآن متواضع جدا، مقارنة بما أصدره كيرككورد خلال حياته القصيرة - خمسين مجلدا -. لا توجد بلاد او منطقة في العالم لم تدرس كيرككورد ..ففي اليابان والهند مثلا توجد هناك مراكز بحثية خاصة به.. كما أن أفكاره استخدمت في أكثر العلوم الاجتماعية والفلسفية وحتى السياسية. قبل أعوام حضرت في مؤتمر أقامته الأمم المتحدة عن الصراعات بين الدول،وقد أشار أحد الباحثين المشاركين كيف تم استخدام أحد مفاهيم كيرككورد حول " المصالحة" في الصراع الدموي الدائر آنذاك في رواندا ، إذ يقول كيرككورد " ان الماضي لا يعود ولا يمكننا ان نغيره، ولهذا علينا ان نتصالح معه". كما أن مقولاته استخدمت في السنوات الاخيرة في مجال التعليم ، أي في الإرشاد التدريسي والانثروبولوجيا وعلم النفس. ولهذا أجد أن تسليط الضوء على هذا الانسان والمفكر الذي كرس كل حياته من أجل الإنسان ، من أجل حريته وإرادته التي رأى فيهما الأساس في وجوده، قضية مهمة، و هو الأمر الذي أكثر ما نكون بحاجة إليه اليوم ، خصوصا في الوطن العربي، الذي يعيش مرحلة خراب وتدمير ذاتي واجتماعي، معظمه يجري تحت غطاء الدين. لقد كان كيرككورد معارضا شديدا لاشراك الدين في قضايا الدولة ؟؟أو السياسة، رغم أنه كان كاتبا دينيا ..لقد رأى في استخدام الدين في الشؤون العامة، بمثابة إضرار بالدين..إن الإيمان بالنسبة إليه هو قضية فردية بحتة، ولا علاقة لقيام طقوس جماعية بالإيمان. وقد خاض لهذا السبب صراعا مريرا مع الكنيسة، وأصدر مجلة خاصة بهذا الموضوع اسمها" اللحظة" التي أصدر منها تسعة أعداد قبل وفاته، بينما صدر العدد الأخير بعد وفاته بسنوات، وكان معدا للطبع قبلها.
وأخيرا أود الإشارة إلى أن أفكار كيرككورد تركت آثارها على معظم مفكري عصرنا، ويقصر المجال هنا لذكرهم جميعا، واكتفي ببعض الذين خرجوا من معطفه الفكري، بدءا من كامو، سارتر، هايدغر ، نيتشه، كافكا، ستندبيرغ، مارسيل غابريل، باول ايلتش، ماكس بيكارد، كارل ياسبرز، لويستغوب وغيرهم..
كيف ترى للمشهد الثقافي العراقي اليوم؟
المشهد الثقافي في العراق اليوم .. يعيش حالة تشكل جديدة بعد سقوط نظام البعث، ولهذا فانه ما يزال يمر بمرحلة قلقة، مرحلة البحث عن هويته الادبية واشكاله الابداعية الخاصة به، إذ لم يوطد بعد اتجاه تطوره رغم أن ما يصدر في العراق يشير الى حراك ثقافي مثابر، حيث هناك جهود كبيرة في كل المجالات الإبداعية لتقدم أعمال ذات قيمة. وعلينا هنا أن نتذكر ما يواجهه المثقف العراقي سواء سياسيا على مستوى غياب الدولة وفسادها، وبالتالي انحطاط المؤسسة الثقافية ، ناهيك عن عدم استقرار الوضع الأمني وغياب الضمان الاجتماعي للمثقف عموما ، إذ أنه يجاهد وبشكل فردي، برغم ذلك، على جميع المستويات من أجل إثبات ذاته الإبداعية.