ادب وفن

"عبد العزيز الحيدر" ومحاولة ترويض اللاوعي / وجدان عبد العزيز

الشعر لون من المغايرة ، لذا فالشاعر لا بد له من حمل هذه السمة، أي سمة المغايرة لما هو سائد أو معتاد، كي تجعل منه صاحب وعي وشفافية ورؤية متفردة ..
حيث كانت الأعراف النقدية العربية القديمة، توجب على الشاعر أن يأتي في ألفاظه وصوره ومعانيه بما يطابق الواقع والحقيقة والعلم، أي المطابقة، لكن تبدل الحياة وإيقاعات التغيير، وتحولات العصر صاحبتها تغييرات في عالم الشعر، والتى تكمن أساسا فى مفهوم كسر الألفة ما بين المتلقى ومفردات العالم من ناحية، وكذا بينه وبين الأطر والقواعد الشعرية السائدة، فالإبداع هو محاولة دائبة للخروج على السائد والمستقر، من هنا شكلت محفزات الإبداع ركيزة مهمة في عملية الخلق الشعري، بعد انفعال الشاعر بما يحيط به ويلهب عواطفه وأحاسيسه، فتتوالد المعاني وتنهال عليه المفردات وتتناغم الحالة الإبداعية مع ذات الشاعر وتبدأ الموهبة الشعرية عملها حتى يكتمل بناء القصيدة ويختلط فيها الوعي باللاوعي .. ومن هذا نتناول بعضا من أشعار عبد العزيز الحيدر التي اتخذت سمة المغايرة ، رغم انها تبدو متواضعة وواضحة في منحاها اللغوي والمضموني، إلا انها طرحت رؤاها بمحاولات جادة للتميز.. يقول الشاعر الحيدر في قصيدة "الضمائر":
"ضائعةٌ في هلوسةِ الكلامِ
في مِفرشِ السفرةِ
تحتَ الشجرِ الوارفِ الظلِ
تحتَ الخنجرِ الصدِئ
تمتدُ في اتجاهاتِ المكانِ
مستترةً
حينَ تكونُ خائفةً تستترُ
حينَ تكونُ خائنةً
وحينَ تخشى منْ إعلانِ الفعلِ
تَنطويْ مُختبئةً بينَ الأحرفِ
في فراغاتِ الأشياءِ
الأزمنةِ
في الفراغاتِ غير المرئيةِ
تُتْعِبُ النحويينَ في البحثِ عنها
لكنها دائماً تُنْكِرُ وجودها
وفوقَ رأسِ الجثةِ حاضرةٌ
وفي لحظةِ الطعنةِ حاضرةٌ
لكنها ترفضُ الشهادةَ
آه يا لغةً تتخفى وراءَ الستائرِ
وراءَ شَبابيكَ مغلقةٍ منْ الأزلِ"
اتخذ الشاعر مسار الضمائر في اللغة العربية المستترة وهي قسمان: مستتر جوازًا: وهو ما يمكن أن يَحُل محله الاسم الظاهر؛ ويكون للغائب "هو" أو الغائبة "هي"، ومستتر وجوبًا: وهو ما لا يمكن أن يَحُل محله الاسم الظاهر، ويكون للمتكلم "أنا" أو المتكلمين "نحن" أو المخاطب "أنت"، والقاعدة تقول: ان الضمير المستتر لا يكون إلا في محل رفع: فاعلًا أو شبهه: "نائب فاعل، أو اسمًا لفعل ناسخ"، بيد ان الشاعر الحيدر حاكى الضمائر الأخرى، فتناص مع الضمائر اللغوية، ليكشف ضمائر اخرى بدلالة الكلمات الزنازينِ والسراديبِ و الأصفاد .. والضمير الانساني أو ما يسمى الوجدان، وهو قدرة الإنسان على التمييز فيما إذا كان قد عمل عملا ما خطأً أم صوابا أو التمييز بين ما هو حق وما هو باطل، وهو الذي يؤدي إلى الشعور بالندم، عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمه الأخلاقية، وإلى الشعور بالاستقامة أو النزاهة، عندما تتفق الأفعال مع القيم الأخلاقية، وهنا قد يختلف الأمر نتيجة اختلاف البيئة أو النشأة أو مفهوم الأخلاق لدى كل إنسان، وفسر علماء العصر الحديث في مجال العلوم الإنسانية وعلم النفس والأعصاب الضمير بأنه وظيفة من وظائف الدماغ التي تطورت لدي الإنسان لتسهيل الإيثار المتبادل، أو السلوك الموجه من قبل الفرد لمساعدة الآخرين في أداء وظائفهم، أو احتياجاتهم دون توقع أي مكافأة وذلك داخل مجتمعاتهم. والضمير وصف وكلمة تجسد كتلة ومجموعة من المشاعر والأحاسيس والمبادئ والقيم تحكم الإنسان وتأسره، ليكون سلوكه جيدا محترما مع الآخرين يحس بهم ويحافظ على مشاعرهم ولا يظلمهم ويراعي حقوقهم وباختصار شديد، هو ميزان الحس والوعي عند الإنسان لتمييز الصح من الخطأ مع ضبط النفس لعمل الصح والابتعاد عن الخطأ.. ومن وصية نوت لابنتها ايزيس: لا أوصي ابنتي التي ستلي العرش من بعدي أن تكون إلهة لشعبها تستمد سلطتها من قداسة الإلوهية، بل أوصيها أن تكون حاكمة رحيمة عادلة .
والوصية تعبر عن الفلسفة السابقة لنشوء النظام العبودي في مصر القديمة منذ خمسة آلاف عام قبل ظهور الديانات اليهودية والمسيحية. كان الحكم يقوم على العدل والرحمة وليس على القوة أو السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي استمدت قوتها من السلطة الدينية أو قداسة الإلوهية، لكن تغيرت الانظمة بمرور الزمن، ولم تبقى على حالها .. وبعد ظهور الديانات، وجاء الاسلام ختاما لها، وقد زود الله سبحانه الضمير بالأحكام الشرعية كي يتصرف الإنسان من خلالها على مقاييس العمل ولتستبين به موارد الصحيح من الزلل ، وجعله الرقيب اليقظ لتقويم النفس، كي تكون شديدة الرقابة دقيقة النظرة بحيث لا يخادعها مخادع ولا يستغلها متغافل انحرف عن طريق الهداية، لهذا أوجبت مسؤوليات الضمير نقل الخير بين بني البشر من خلال كلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعله مبدأّ وركيزة تقوم لإصلاح الفرد والمجتمع في ظل تعاليم الإسلام ومناهجه ، وأن لا يختار من الأمور إلا أفضلها وأزكاها عاقبة كما في حديث الإمام صادق "ع": "ان للقلب أذنين، فإذا همّ العبد بذنب قال له روح الإيمان لا تفعل، وقال له الشيطان أفعل"، وإن الضمير الواعي المحترس لا يرضى التعدي على الإنسان الآخر ولا ظلمه ... وقد يطول الحديث في هذا، فالشاعر عبد العزيز الحيدر قد تطرق إلى الكثير من الامور التي تخص الحياة وعلاقات الفرد بينه وبين الاخر من خلال تناصاته ومن خلال موروثاته الثقافية.. ففي قصيدة (العدم) يقول :
"كانت أبواقُ – الفايكنكِ - في وداعِ سفنهمْ
أنتَ لنْ تُرعبنيْ بسياطِكَ
والآلهةِ المزيفةِ التي تُرسلها إلى احتفالاتك
معَ فواتير الخرابِ....والدموعِ
فواتيركَ الصفراءْ
أيُ سدادٍ لاستحقاقاتِكَ المزيفةِ
يا ملِيكَ الجَهْمِ والخرابِ
أيةُ بقعةٍ غريبةٍ لإخفاءِ الخطيئةِ الكبرى
خطيئةِ الخلقِ والعبثْ"..
هكذا يخاطب الاشياء متخفيا برداء الشعر، فالشعر مغايرة ومغامرة، يحارب جهات القبح بمشروع مفتوح ليس له نهاية، حتى قيل ان الشعر مشروع تيه لا يؤمن بالوعظية والخطابية، انما يبحث في اللا ممكن والاحتمال، ولا يرضخ اتلى سلطة مقولة معينة، بل لديه اجتراحاته الخاصة، لذا يتساءل الشاعر الحيدر :"أي بقعةٍ غريبةٍ لإخفاءِ الخطيئةِ الكبرى/ خطيئةِ الخلقِ والعبثْ"، فمشروع الشعر لا يتوقف عند الرفض والقبول، فهو يمتد وقامة الحياة وهوس الانسان في امتلاك السعادة والحياة المثالية، أي انه بحث جمالي، يقول هوم :"الجميل هو ذلك الشيء المتمثلة فيه النسب التي تربط المشاهد بأقرانه"، و "قد لا يختلف اثنان أن الحس الجمالي هو الحكم الفصل في الكشف عن شعرية الإبداع وطاقته الفنية؛ خاصة إذا أدركنا أن الحس الجمالي، هو جوهر ما يروم المبدع تحقيقه في منتجه الشعري؛ فالشاعر المبدع هو الذي يملك أقصى درجات الحساسية الجمالية في تشكيل نصه، بطرائق تشكيلية مبتكرة، تروم الوصول إلى قمة اللذة والإثارة الشعرية؛ في تفعيل نصه، ليكون أكثر قبولاً واستحساناً من قبل المتلقي"، وكما نوهت ان اشعار الحيدر متواضعة وتلقائية، إلا انها تحمل في رؤاها مضامين كبيرة، وهكذا الشاعر يدور في محاور عديدة، مثلما تحدث في قصيدة "الفم" قائلا:
"أوامرَ بالحظرِ
1
2
3
كانتْ في الانتظارِ
وحيداً مع لغتيْ
أطلقُ أغانيَ الالكتروناتِ التائهةِ
والالكتروناتِ الحزينةِ المهاجرةِ
والالكتروناتِ التي لمْ تَعدْ إلى مداراتِها الأُمُ
الأغاني الحزينةِ
التي تملأُ وحشةَ الفضاءاتِ المتراميةِ
بين المداراتِ
أطلاقُ موسيقى الذراتِ.....
موسيقى الحركةِ اللا متناهيةِ للأرواح"..
فتناص هنا مع الذرة ودوران الكتروناتها، هذا النظام الكوني الدقيق في الذرة حاول الشاعر ان يتعامل معه شعريا، ليجد نفسه كإنسان يعيش حالة انتظارات متعددة، حتى انه ربط كل الحركات وحركة الروح، كونه باحث عن الحقيقة بوعي قصدي، رغم انه يعيش حالة التيه الشعري..