ادب وفن

قراءة نقدية لـ "قواعد العشق الأربعون" / د. ناهدة محمد علي

الكاتبة اليف سافاك، تركية اشتهرت بعد صدور روايتها "لقيطة إسطنبول" عن المجزرة الأرمنية في تركيا.
وفي روايتها "قواعد العشق الأربعون" تسرد قصة زمنين غير متعاقبين ومكانين متباعدين، فهي ما بين مدينة "ماساشوستس الأمريكية" والثانية تمر من سمرقند وبغداد إلى مدينة قونية التركية، وهي ما بين القرن الثالث عشر 1244- 2008.
وبإلقاء نظرة سريعة على حياة الكاتبة نجد أنها درست العلوم السياسية واهتمت بدراسات حول المرأة. وهي القائلة: "المرأة دائماً زوجة أحدهم أو أم أحدهم أو أخت أحدهم، وأنا أريد أن أكون أنا".
عاشت الكاتبة مع أم مطلقة وقامت جدتها بتربيتها وكان أصدقاؤها هما الكتاب والقلم، اهتمت الكاتبة بالمنسيين وبالأقليات ولذلك حُكمت لاتهامها بمعاداة القومية التركية ولفضحها لمجازر العهد العثماني، أبدعت الكاتبة في رواية "الحليب الأسود" والتي كشفت فيها معاناة الأمومة.
تقول شفق: المتدينون والملحدون الكل منهم متأكد من معتقداته، أما الصوفية فهي ليست متأكدة من شيء.
صدرت رواية قواعد العشق الأربعون والتي تكشف عن أسرار العقيدة الصوفية في الولايات المتحدة في شباط 2010 وفي المملكة المتحدة في حزيران 2010 وبيعت 550,000 آلف نسخة من الرواية، ولهذا أصبحت الرواية الأكثر مبيعاً في تركيا. وتُرجمت أعمال الكاتبة إلى أكثر من 42 لغة وامتد نشاطها الأدبي إلى حوالي 22 كتابا.
في رواية قواعد العشق الأربعون كانت الشخصية الرئيسة المعاصرة هي "إيلا" روبن شتاين اليهودية الأربعينية غير السعيدة في زواجها والتي تعمل كناقدة في وكالة أدبية، وكانت مهمتها الأولى هي نقد كتاب "الكفر الحلو" للكاتب عزيز زاهارا. تُفتن إيلا بالقصة وكاتبها وتتملكها قصة بحث "شمس التبريزي" عن جلال الدين الرومي، وكيف حول الدرويش شمس التبريزي رجل الدين الفقيه "جلال الدين الرومي" إلى صوفي وشاعر عاطفي وداعية حب. وتصبح "إيلا" شغوفة بأفكار التبريزي الفلسفية والتي تؤكد على توحيد الناس وأديانهم والتأكيد على الحب المتواجد في قلوب البشر، وربطت إيلا حياتها بقصة هذه الرواية وأحبت فلسفتها وكاتبها "زاهارا"، والذي فتح أمام عينيها أبوباً كانت موصدة وأطلقت سراح مشاعرها تجاه حب الله ومخلوقاته.
إن المميز في الرواية أنها تسير بزمنين مختلفين متباعدين وشخصيات مختلفة لكنها تحمل نفس الروح ونفس الفلسفة.
يبدأ الكتاب بكلمة للتبريزي يقول فيها: "عندما كنت طفلاً رأيت الله ورأيت الملائكة، رأيت أسرار العالمين العلوي والسفلي فظننت أن جميع الرجال قد رأوا ما رأيته، لكني سرعان ما أدركت أنهم لم يرو".
إن قصة الرواية تسير بشكل متواز ومتقن وبفكرة واحدة. تقول الكاتبة يسير خط الرواية بأشكال عدة ولا يختلف القرن الحادي والعشرون عن القرن الثالث عشر. ولقد كان هذان القرنان عصر صراعات دينية وطائفية وساد فيه سوء التفاهم الثقافي والإحساس العام بعدم الأمان والخوف من الآخر، وفي هذه الأوقات تكون الحاجة إلى الحب هي جوهر الحياة وهدفها السامي.
إن قراءة "إيلا" لقصة "الكفر الحلو" قد غيرت حياتها وأثرت فيها فلسفة التبريزي كثيراً، كثيراً.
لقد تنقل التبريزي ما بين سمرقند وبغداد وقونية ودمشق حتى لقي حتفه في قونيه على يد قاتل مأجور في رحلة بحثه عن الله وبحثه عن الحب. يقول التبريزي "ما لم نتعلم كيف نحب خلق الله فلن نستطيع أن نحب الله حقاً".
لقد التقى التبريزي والرومي في "قونية" التركية وبث التبريزي في روح الرومي نفساً فلسفياً جديداً ليتحول الخطيب ورجل الدين الفقيه إلى داعية إلى الحب وداعية إلى وحدة الأديان وتفضيل العشق الإلاهي على غيره من بُدع الحياة، وتحول الرومي إلى شاعر عاطفي يدعو إلى المحبة ويرقص رقصة الدراويش كما يدعو إلى التحرر من جميع القيود والقواعد التقليدية، لكن هذا لم يلق القبول من الكثير من الناس.
دعا التبريزي في عصر سادت فيه النزاعات إلى روحانية عامة شاملة فاتحاً الأبواب أمام محبة جميع البشر بلا استثناء وبدلاً من الجهاد الخارجي دعا الرومي إلى الجهاد الداخلي أي جهاد الأنا وجهاد النفس وقهرها. وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه الدعوة لكان تغير وجه الأرض ولما حدث أي تطهير عرقي أو ديني أو طائفي باسم الطهارة الروحية وما هو إلا "وساخة روحية".
وبعد مرور 800 سنة تأتي الرواية الأخرى الممتدة من قصة التبريزي والرومي وهي ما بين إيلا اليهودية وزاهارا المسيحي في رواية "الكفر الحلو" حيث تتواجد نفس القواعد للعشق، وتنقلب حياة إيلا وتأخذ بمراجعة حياتها الأسرية ورتابتها فتهدر حياتها وتلتحق بمؤلف الرواية الجديد والذي أسلم وأصبح باسم "عزيز" وأخذ يضع قلادة الشمس على صدره كي تذكره "بشمس التبريزي"، لكن الموت داهمه بعد ذلك وأصيب بسرطان الجلد ثم مات في قونية ودفن بجوار قبر الرومي.
كانت قواعد العشق الأربعون نموذجاً صافياً وغريباً للعشق البشري الإلاهي، وسأدرج هنا بعض هذه القواعد لأن الرواية بنيت لا على أساس السرد الدرامي بل على أساس السرد الفلسفي لموضوع التوحد مع الذات الإلاهية وعدم التركيز على الذات الإنسانية لأنها دائماً مصدر للاختلاف والخلاف والتي هي السبب الرئيس للمعارك الدينية والطائفية والسياسية بينما التوحد مع ذات الله هو ما يجمع البشر ويوحدهم حسب تصورات الفلسفة الصوفية.
قواعد العشق الأربعون
- إن الطريقة التي نرى فيها الله ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا. فإذا كنا نرى الله من خلال الخوف والملامة فهذا يعنى أن هناك الكثير من الخوف والملامة في أنفسنا، أما إذا رأيناه من خلال المحبة والرحمة فإننا نكون كذلك.
- إن الطريق إلى المحبة يمر من خلال القلب لا من الرأس، فأجعل قلبك لا عقلك دليلك الرئيس. وفي رأيي أن هذه القاعدة هي مخالفة للمنطق حيث أن العقل هو الفاصل دائماً بين الخطأ والصواب وقد يسحب القلب الإنسان إلى أخطاء كثيرة، لكن الصوفي لا يبالي بالنتائج بل بطريقة الوصول إليها.
- قسمت هذه القاعدة قراء القرآن إلى أربعة مستويات من البصيرة. الأول المستوى الخارجي وهو للأغلبية، والثاني المستوى الباطني، والثالث باطن الباطني، أما الرابع فهو مستوى العمق والذي لا يمكن الإعراب عنه بالكلمات بل بالصمت.
- يمكن للإنسان أن يعرف الله من خلال كل شيء في الكون ولا يقتصر هذا على المسجد أو الكنيسة أو الكنيست، إن عرش الله موضوع في قلب عاشق حقيقي، وتركز هذه المقولة على نوع الصلة بالله "لم يعش أحد بعد رؤيته، ولم يمت أحد بعد رؤيته، ومن يجده يبقى معه إلى الأبد".
- يتكون الفكر من عُقد تربط البشر، لكن الحب يذيب جميع العقد.
- الصوفي لا يحمد الله على ما منحه إياه فحسب بل يحمده على ما حرمه منه.
- الصبر يعني أن تنظر إلى الشوكة وترى الوردة، وأن تنظر إلى الليل وترى الفجر، ولكي يصبح الهلال بدراً هو محتاج إلى الوقت.
- في هذا العالم معلمون وأساتذة مزيفون، فلا تخلط بين المعلمين من أجل السلطة وبين المعلمين الحقيقيين.
- إن البشرية لوحة جميلة رسمها خطاط ماهر، تتساوى فيها جميع النقاط من حيث الأهمية. إن من السهل أن تحب إلاهاً لكن الأصعب أن تحب إخوانك من البشر بكل نقائصهم.
- يوجد نوع واحد من القذارة والتي لا يمكن تطهيرها بالماء النقي وهي قذارة الكراهية والتعصب.
- إذا أراد المرء أن يغير الطريقة التي يعامله بها الناس فيجب أن يغير أولاً الطريقة التي يعامل بها نفسه.
- في هذه الحياة تجنب التطرف بجميع أشكاله لأنه يحطم اتزانك الداخلي.
- يشبه العالم جبلا من ثلج يُردَد فيه صدى صوته.
- إن ترك كل شيء للقدر وعدم المشاركة في عزف موسيقى الكون هو جهل مطلق.
- في هذا العالم ليست الأشياء المتشابهة أو المنتظمة بل المتناقضات الصارخة هي ما يجعلنا نتقدم خطوة إلى الأمام.
- ليس من المتأخر مطلقاً أن تسأل نفسك هل أنا مستعد لتغيير الحياة التي أحياها حتى لو تبقى من حياتك يوم واحد
- إن هذه التعليمات الفلسفية هي محصلة وجوهر للفكر الإنساني بكل فلسفاته المادية والمثالية. وقد حاول التبريزي والرومي كما حاول زاهارا أن يعبروا الطريق الأسهل والأسلم للفكر الإنساني لكنها الرؤية الأعمق لنوع العلاقات البشرية، فليس هناك لون محدد أو جنس محدد أو قومية محددة أو دين محدد أو طائفة محددة بل هناك هدف واحد سام هو التوحد مع الذات الإلاهية وعشق كل مخلوق موجود في هذا الكون، وقد استوحوا هذا الفكر من خلال دراسة كل الأديان والتاريخ المادي والمعنوي للبشر. وقد كان أحد الأهداف السامية هو توحيد العنصر البشري واحترام الآخر ومحبته وصولاً إلى الكمال الإنساني. إن النقطة التي تدور حولها هذه الفلسفة هي أن محبة البشر هي جزء من محبة الله وكان الدرويش الراقص الذي يدور حول نقطة واحدة مَجَرات سماوية تدور حول الثقوب السوداء والتي قد تبتلع كل شيء لكنه يولد كل يوم نجم جديد. ومن أجمل ما عرفت عن هذه الفلسفة هو أن الإنسان مجبر على المساهمة في عزف موسيقى الكون ليصبح هذا الكون سمفونية رائعة لا نشاز فيها.