ادب وفن

"هتليه".. شاحنة أسئلة / أمين قاسم الموسوي

وأنت تقرأ "هتليه" لشوقي كريم حسن , تحاول أن تمسك بخيط يجنس لك هذا العمل, أهو رواية ؟ ان الكاتب يصرخ بك انها "ليست رواية" لكنك ترفض ما يريده الكاتب وتقول: لا. انها رواية , وتبحث عن انتمائها شكلا ومضمونا , أهي من الواقعية الانتقادية متمثلة بسدرة "سيد عواد" وابتلائه بهؤلاء الشباب الذين يحتسون "المنكر" تحتها؟ وهو ما لا يروق لسيد عواد ولكنه يرضخ للواقع فيرضى بذلك , حتى لا ينغمس هؤلاء الشباب في عالم السياسة"! أهي من الواقعية السحرية حيث يختلط الواقع بالمتخيل وتتداخل الازمنة وتتحول الضمائر من غائب الى مخاطب ومن مذكر الى مؤنث؟ أهي عمل أيروسي؟ حيث تطالعك صفحاتها هنا وهناك بروائح الجنس , والذكورة والانوثة , وتأوهات النفس في هذا المجال , انها عصية على التصنيف فهي "شوقية"، وظلال هذه الشوقية المتحدية تطل عليك في كل ما تطالعه منها , فالكاتب يجعلنا بقصد " لا نعرف عن ماذا يتحدث ؟ مثلما لا تعرف أنت الآن عن ماذا أتحدث" ولا أظن ضمير المخاطب "أنت" الا موجها من الكاتب الى القارئ , وهو ربما اراد نفسه حينما قال:" انا كائن يهذي ... ممتحن بالخيال" وهذا لا يعني ان الكاتب في هذيانه لا يقول شيئا , بل أنت واجد كل شيء في هذا الهذيان فهو يعلن ان " الروح تمطر // مطر ... مطر شاشا , العن ابو كل باشا " انه ابن الفقراء الساخطين اللاعنين كل الباشوات , اعداءهم الطبقيين , وقد جاء ذلك اللعن مأخوذا من ألعاب بنيات البصرة التي وظفها السياب في احدى قصائده . انت تجد كل سفالات المحققين والمعذبين في هذا الحوار بين مجموعة منهم من اول وثاني وثالث و رابع وخامس وسادس ... الخ , وكل منهم يقترح طريقة لموت السجين المعتقل , طريقة كان قلم الكاتب ملتقطا لها معبرا عن السواد القاتم في ضمائر اولئك المحققين من اولهم الى اخرهم , ولا تملك الا ان تعلن ثورتك على هؤلاء الاوغاد , وتلذذهم بطريقة موت السجين. ولكن ما السؤال الذي ارادت "هتليه" ان تجيب عنه أو تحاول ان تجيب عنه؟ انه ذلك السؤال الخالد : ما الانسان ؟ والجواب لا بد ان يكون مختلفا باختلاف المجيب، معلما كان أم "ملا" من الملالي. وبهذا تكون "هتليه" وجودية المضمون، لان فحوى السؤال :"ما الانسان" تفرض هذا التصنيف. فالرواية لا تسأل :"ما المجتمع" وما القضية الاجتماعية ؟ لتكون ضمن المدرسة الواقعية – خصوصا الواقعية الاشتراكية – وانما تدور معظم اسئلتها عن الانسان كما ذكرنا , عن سر خلقه ؟ عن عذاباته ؟ وعن ... وعن ؟ حتى جواب الكاهن الاكبر ترك بلا موقف , فلم يجب عن اي احتمال لتعريف الانسان , لم يجب عن اي سؤال بـ "نعم" أو "لا" وذلك موقف يتضمن رفض كل الاجابات عن السؤال: "ما الانسان"
اما الشكل في "هتليه" وخصوصا اللغة التي يميل فيها الكاتب بشكل واضح الى استفزاز السائد المعروف كإقحامه لفظة عامية في سياق جملة فصيحة , ويبقى القارئ متسائلا ما فائدة هذا الاقحام وهل من ضرورة فنية تدعو الى ذلك ؟ وما ضر لو وضعت اللفظة الفصيحة مكان اللفظة العامية؟ فالكاتب مثلا يستعمل "جماميل" وهي جمع جملون فما الضير لو انه استعمل بيوت الطين او اكواخ الطين بدلا من "جماميل" , هذا في استعمال الألفاظ مفردة اما استعمال العامية في بعض الجمل و الحوارات فهو استعمال موفق حين تكون ثمة ضرورة لذلك كأن يأتي الحوار على لسان شخصية لا يناسبها الا الكلام العامي كالذي ورد في قوله :"خاله الله يخليج اريد ورده من ذيج البيضة "فهذا التعبير العامي يحظى بالقبول , لأنه جاء على لسان صبي من سكنة اكواخ الطين فكان معبرا عن المستوى العمري والاجتماعي و المعرفي للشخصية, ومن المثير للدهشة ان الكاتب يوغل احيانا في العامية بلا مبرر معقول بينما يستعمل في حالات قليلة الفاظا هجرتها الفصيحة المعاصرة, كقوله: "يولجون مخاوفه في سم رجولته "فهو يستعمل "سم" بمعنى ثقب وهي لفظة معجمية ماعاد لها استعمال في الفصيح المعاصر , وكذلك استعماله "علً" بمعنى "لعلً" بحذف اللام مما يجعل اللفظة بعيدة بعض الشيء عن الفصيح المعاصر , وماضره لو قال "لعل" وقد تطالعك مسائل في اللغة كرفع المنصوب ونصب المرفوع او تجد خللا في تأدية المعنى كقوله :"المرأة التي تبدل فراش زوجها بفراش آخر لا يجب ان تعاشر" والمعنى هنا ضد ما اراد الكاتب ان يقوله فهو يريد: "المرأة التي تبدل في فراش زوجها فراشا اخر يجب ان لا تعاشر". ان هذه المسائل طحالب في عالم الابداع والخلاص منها خير من بقائها , ووجودها في "هتليه" أو غيرها من الاعمال لا يهدم جدار الابداع , فلغة "هتليه" تدل على ما يمتلك الكاتب من لغة هي طوع يديه في مجازاته وانثيال خياله ومجسات ابداعه التي تسبر غور النفس البشرية لتعبر عما يمور في داخلها بــ "شاحنة من الأسئلة".