ادب وفن

اختزال الأزمنة العراقية .. في رواية (طشاري)/ احمد عواد الخزاعي

رواية عابرة للأجيال، راسخة في عراقيتها، هادئة سلسة، تشم بين طيات حروفها عبق طين العراق، وتتذوق ملحه الندي، ( طشاري) الصادرة 2013عن دار الجديد في بيروت، والتي أرادت لها أنعام كجه جي، ان تكون سفرا لتاريخ العراق الحديث، بكل ما حمل بين ثناياه من أفراح وأحزان، انتصارات وهزائم، نظم شمولية وفوضى .. طشاري هي ركام سنوات الحروب واليباب، ونهايات مفتوحة على المجهول، انتقلت بنا الروائية انتقالات زمنية ومكانية شاسعة لكنها سمحت لنا أن نتمسك بخيوط نصها المنساب بهدوء وروية، اختزلت فيها الأزمنة العراقية المختلفة والتي تمتد لأكثر من ثمانية عقود، وأمكنة تعددت أوجهها وبيئاتها وظروفها الاجتماعية، غير إنها استطاعت أن تنسجها بدقة وحرفية، لتصنع منها خارطة وطن منكوب تشبث به أبطالها، وعاشوا حاضرهم وغربتهم، بنكوصهم إلى ماضي جميل عاشوه على أرضه، ماض شوهته الدكتاتورية وأطاح به الاحتلال.
بلغة بسيطة مرنة خالية من التعقيد والإسهاب، وقدرة استثنائية على صياغة الجملة الغير تقليدية، تحكي لنا أنعام كجه جي حكاية الدكتورة وردية، والتي تمثل خطا بيانيا للوجه الحضاري والثقافي والمعرفي للعراق عبر تاريخه المعاصر، ومؤشر على أزمنة الحب والخير والآمان والتعايش السلمي، وأزمنة الكراهية والحروب والقحط والفوضى.. الدكتورة وردية ابنة الموصل المسيحية العقيدة، قادتها أقدارها لتصبح طبيبة في لواء الديوانية في خمسينات القرن الماضي، لتعيش غربة قسرية فرضتها عليها مهنتها الإنسانية، ولكنها سرعان ما تتبدد هذه الغربة بعدما اندمجت في ذلك المجتمع البسيط المختلف عنها عقائديا وبيئيا، بعدما لامست عفويته مشاعرها الغضة، وأصبحت بمرور الزمن جزء منه، حين وجدت رفيق دربها الدكتور المسيحي جرجيس الذي أصبح زوجها وأبا لأبنائها فيما بعد، وذابت في تلك المنظومة الاجتماعية والأخلاقية التي أحاطت بها وغمرتها بالحب والعطف ومدت لها يد المساعدة، بغض النظر عن انتمائها البيئي والعقائدي، والتي لم تكن تشكل هذه الجزئيات يوما حاجزا نفسيا في العلائق بين أبناء المجتمع العراقي.. عاشت الدكتورة وردية هناك وتزوجت وأنجبت وقررت البقاء في الديوانية بالرغم من انتهاء مدة أقامتها الطبية هناك، وولد على يديها المئات من أبناء تلك المدينة الفقيرة، لتصبح بمرور الأيام جزء من نسيجهم الاجتماعي، وإحدى العلامات المتميزة في المدينة، تلتقي صلواتها مع صلواتهم ودعائها مع ادعيتهم عند بوابات السماء، تشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ويحترمون ويجلون معتقداتها، صورة جميلة اقتطفتها لنا أنعام كجه جي عن حقيقة جميلة كانت ماثلة يوما ما على ارض العراق، ونقلتها برؤية أدبية صادقة، وهذا ما منح (طشاري) كل هذا الزخم والحضور .. يعرف الناقد البلغاري تودروف الرؤية ( أنها أهم شيء في العمل الأدبي، في الأدب لا نواجه إحداثا أو أمورا في شكلها العام، وإنما نواجه أحداثا معروفة بطريقة ما، وتتحد جميع مظاهر أي شيء بالرؤية التي تقدم لنا عنه).. فقد تناولت الروائية هذه الجزئية المهمة والراسخة في وجدان كل إنسان على وجه هذه الأرض، وشعوره اللاإرادي بالانتماء والحنين إلى الوطن والأحبة، وتعاطيه مع الغربة وقسوتها، تلك المتلازمة السيكولوجية التي تحدد حراك هذا الإنسان وقدرته على التعاطي مع الآخر .. في رواية (طشاري) تم تبويب هذه الجزئيات المهمة عبر شخصيات عدة، عانت هذا الاستلاب بظروف مختلفة عن بعضها، لكنها أنتجت شكلا متقاربا من ردود الأفعال، اتجاه أقدارها التي قادتها نحو المجهول .. كانت رؤية الكاتبة ووجهة نظرها حول ما حدث ويحدث في العراق، منبثقة عن شعور وطني متجذر يلمسه القارئ في الكثير من محطات نصها، حين تكون أنعام كجه جي حاضرة خلف ابنة سليمان شقيق الدكتورة وردية، التي أرادت لها أن تكون جسرا لتنقل لنا جزءا من رسائلها الينا، سارد داخلي موازي يسير جنبا إلى جنب مع الكثير من الأحداث .. فقد أوكلت الروائية جزء مهم من السرد إلى ابنة سليمان شقيق الدكتورة وردية، بعدما منحتها القدرة والمبررات على ذلك، لتبقى نمطية السرد ولغته وأسلوبه وصوره ثابتة لا تتغير على امتداد النص، فجعلتها شاعرة وأديبة كأبيها سليمان، إن هذه التقنية يلجا إليها الكثير من الكتاب لإضفاء جوا من الطمأنينة للقارئ على صدق الأحداث، التي تناولتها نصوصهم الأدبية، وهذا ما يعبر عنه الناقد سعيد يقطين ( وهم الإقناع) .. حيث يكون هناك راو داخلي يتحدث بطريقة (الأنا الشاهد والأنا المشارك).
بعد مرور سنوات طويلة على حياة الدكتورة وردية في مدينة الديوانية، تقرر الانتقال إلى العاصمة بغداد، بعدما أصبحت جزء من الوجه الحضاري والإنساني لتلك المدينة، تفتح عيادتها الجديدة بالقرب من سكنها الجديد، ويبقى جزء من ماضيها الجميل يلحق بها إلى بغداد، واستمرت نساء الديوانية بالتوافد على عيادتها الجديدة بصورة منتظمة.. ليقع الحدث المفصلي في الرواية والذي قذف بحياتها إلى مديات خطيرة وقادها إلى نهاية حزينة غير متوقعة أو مألوفة، وقع الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وحدثت الفوضى العارمة واختلطت الأوراق، عندها بدأت رسائل الموت تقض مضجعها، رسائل محشوة بالرصاص وبعبارات تهديد تطالبها بتسليم ابنتها المتبقية لديها (ياسمين) إلى الجماعات الإرهابية لتصبح جارية عند أمير الجماعة.. ومن ثم حدث أن جاءت إحدى الإرهابيات وحاولت تفجير نفسها في عيادتها، عندها غادرت الدكتورة وردية ارض الأجداد وتتخلى عن جذورها الضاربة في ارض العراق لآلاف السنين، وينتهي بها المطاف لاجئة في فرنسا، وقد قارب عمرها الثمانون عام ، بعدما زوجت ابنتها ياسمين لأحد أقربائهم الذي يعيش في الإمارات، لتبدأ رحلة الحنين والاستذكار والارتداد إلى ماضيها الجميل، والى أبنائها الذين تفرقوا في بلدان الأرض.
حملت رواية (طشاري) أحلام وأفراح وأحزان ثلاثة أجيال عراقية متعاقبة، فتداخلت الأحداث فيها وتنوعت المشاهد، وتقاطعت الأفكار والرؤى والأمزجة والتطلعات بيت إبطالها، غير أن مشتركات خارجة عن سياق حراكهم فرضت نفسها عليهم، هذه المشتركات التي قادتهم لتوقفهم على أعتاب وطن ظلوا ينشدون العودة إليه، وطن سلبه منهم المغامرون والمقامرون، الذين قادوا العراق إلى جحيم الحروب، ومحنة الحصار، ومن ثم فوضى الاحتلال.. انعكس هذا الإرث التراكمي عليهم رغما عنهم .
(اسكندر) الشاب الصغير، حفيد سليمان شقيق وردية والذي يمثل جيلا ثالثا متأخرا، الذي لم يرى العراق، وكل ما تحفظ ذاكرته الفتية عنه، مجموعة من الحكايات القليلة، وارث اجتماعي وثقافي تعلق بابويه، حملوه معهم في غربتهم .. اسكندر ورث ثقافة الموت، الملازمة للعراق، هذا الشاب الذي نشا في باريس ونهل من ثقافة الحياة والحب والجمال السائدة هناك، ظل جزء خفي منه مشدود لبلد الآباء والأمهات والأجداد، بلد أدمن ثقافة الموت والحزن والبكاء، لذلك نجده ينشا مقبرة افتراضية، على حاسوبه الشخصي، جمع فيها كل الذين رحلوا عن هذه الحياة من أهله وأقربائه، وأقام شواهد قبور حتى للأحياء منهم، هذه الثقافة الراسخة في اللاوعي العراقي، يستحضرها اسكندر في مقبرة افتراضية ليجعلها بديلا عن وطن، لشعب شردته الحروب والقحط والفوضى حتى غدا طشاري..(تمددت شاشته واتسعت وصارت مأوى مثاليا للمخاوف العابرة مرقدا موقتا لموت متعدد الوجهات، يكفي أن يلمس اسكندر مفاتيح الحروف، فيتحول الحاسوب الصغير إلى بوصلة تدل على موقع موتانا الموزعين هناك، ثم الملمومين هنا).
يأتي الجيل الثاني الذي يتحمل العبا الأكبر من المحنة.. (هندة، ياسمين، ابنة سليمان، براق) حكايات أخرى موازية لحكاية وردية، ترافقها مسيرة الغربة والحنين، إلا ان أصحابها كانوا جيل وسطي عانى إشكالية الانتماء بكل ما تحمل هذه المفردة من تقعيد وتأثير نفسي وسلوكي على الفرد، هذا الجيل الذي يعيش أزمة حقيقية في غربته، يحاول أن يتأقلم مع عوالم غريبة عن موروثه الاجتماعي، الجيل المهاجرين الأوسط، الذي يخشى على نفسه من تلاشي ثقافته الحتمية، وموروثه الإنساني بين ثقافات تلك الشعوب، تحاصره أسئلة كثيرة وكبيرة تفرض نفسها عليه.. كيف له أن ينشا جيل يحمل ثقافة الآباء والأجداد ؟ كيف له أن يصنع متاريس ثقافية تمنع أبنائه من الذوبان في تلك المجتمعات الغريبة عن طباعه وأعرافه ؟ .
في صورة تعبر عن محاولة تشبث يائسة بالوطن، تقوم بها هندة ابنة الدكتورة وردية، وهي في ارض المهجر، حين رفضت بيع بيتها الذي في العراق، على امل ان يعود اليه ولديها في يوم ما..( لا تريد أن تحرمهما من موطئ قدم في بلد سيبقى وطن ينتميان إليه مهما شرقا أو غربا، الوطن الأم).. لذا اختارت أنعام كجه جي أن تكون ابنة سليمان شقيق الدكتورة وردية هي من يقع عليها استعراض هذه البانوراما لسفر العراق الاجتماعي والسياسي .. ولم تختار الدكتورة وردية صاحبة الثمانون عام، بعدما ماتت عند الاخيرة الدهشة بالأشياء، ولم يعد يعنيها غير استذكار ماضيها الشخصي الجميل، وحنينها لأبنائها الذي أصبحوا (طشاري) في أصقاع الأرض.. حتى انها طلبت من حفيدها اسكندر ان يزيل شاهد قبرها من مقبرته الافتراضية ..(هكذا هي الدنيا صداقات وخيانات ، ومفاجئات لا تنتهي لاشيء يستحق الزعل ولا الدموع).. تتنحى الدكتورة وردية جانبا لتروي لنا ابنة شقيقها جزء من الأحجية العراقية .. أسماء وأماكن شكلت محطات مهمة في تاريخ العراق الحديث، ومهن وحرف هي جزء من الموروث الاجتماعي العراقي عبر عقود طويلة، استعراض يستمر لصفحتين تستذكر فيها ماضي العراق الجميل وتنزف ألما على حاضره الحزين..( تتواتر صور الملوية والزقورة وقصر الاخيضر والثيران المجنحة وملكات الحضر وتاج شعباد، وقباب المساجد وكنائس النجف وطاق كسرى ومراقد الأئمة ..... تأتي صور الفيصلين وغازي .... يقوم الرصافي من قبره والملا عبود الكرخي والجواهري ونازك وتبقى ذراع السياب ممدودة عند شط العرب ... فلفل كرجي وحسين نعمة ووحيدة خليل، مقامه القبنجي ..أضاعوني وأي فتى أضاعوا...) ويستمر هذا النزف حتى ينتهي بعبارة ( بلاد طويلة عريضة بكل حضارتها الفخمة وحاضرها البائس تتمدد على الشاشات).