ادب وفن

"حافة كوب أزرق".. ومنظومة الوعي والخطاب الشعري / محمد يونس

الشعر مثال حي للأحاسيس التي لا تواجه بصريا، بل هناك ايحاء يرسمه لنا بصور متعددة، وبدلا من أن تكون عضوية تبدو ايقونية، وهذا هو أحد مضامين الشعر، والصورة الشعرية ترتبط مباشرة بالبعد الايقوني، والذي يتفق مع تفوق اللغة الشعرية وتعديها الشكل الاجتماعي ثابت الزمن، حيث يبدو زمنها أكثر تحررا، لكن لا يتأثر المعنى بل يتطور من معنى مباشر الى آخر غير مباشر، لكن لا يقف عند هذا الحد، بل ان ترسيم جودته وبعدها الجمالي يكون في مستوى متميز في قصيدة النثر،
حيث هناك بلاغة شعرية غير مرتبطة بعمق ايحائي، بل تجاور وجودا حساسا للمعاني الشعرية المباشرة، وأحيانا تتداخل معها لضرورات شعرية، ويقابل هنا الحس الاجتماعي حس القصيدة. والشاعر الذي يبغي الجودة يناور بقصيدته هنا في فضاء تراكبي، واقع – معانقة وجود – التعبير عنه – تأويله، ويكون التأويل بإحالات شعرية تكون هي شفرات الشاعر، ويكون المضمون الفلسفي معيارا أساسيا لها.
قصائد مقداد مسعود في "حافة كوب أزرق"، تتباين فيها كيانات القصائد بين معنى عام وآخر أوسع- وثالث أعمق، وهي تجربة حيوية لتجاوزها السياق النمطي للكتابة، أي أن تقصي الشاعر يبدأ من الحقيقة الى الدلالة الشعرية، لكنه يتجاوز ذلك الحد الدلالي في تصاعد ايقاع القصيدة نحو معنى أعمق وخالص الذاتية، وهناك معنى مقابل للشعر في القصائد، وهو فلسفي البعد، وسنبدأ من دلالة العنونة أو ما يسمى بالنص الموازي.
ان دلالة العنونة في اطارها بلغة عضوية هي مباشرة سيموطيقيا، لكن هنا علامة لغوية وايقونية ليس من السهل استيعابها نصيا، وهي في سياق نثري بمعطاها في تأكيد مباشر، فعنونة مجموعة شعرية كما "حافة كوب أزرق"، تحيلنا الى وعي "الحاج أو بيضون أو الماغوط"، فهم أقطاب مهمة وعلامات فارقة في قصيدة النثر العربية، تميز وعيهم العنونة كقيمة جمالية، اضافة لما تتصف به كعتبة نص نثري، كما تشير العنونة بإحالتها من جهة الى مدرسة النثر الفرنسي التي تهتم بالأيقونات، كونها علامات سيموطيقية اذا جاز التوصيف فهي دائرية، حيث مفردة "حافة" لا تحيلك الا لذاتها، وكذلك مفردة "كوب"، لكن مفردة "أزرق" اللونية تشير الى بعد رمزي، فالسماء بلون أزرق، وفي الفن التشكيلي تعبر المرحلة الزرقاء عن أهم مراحل بيكاسو الفنية، ونقف هنا على أساس اللون الذي هو رمزيا ايجابي، يمثل السماء التي تمطر فتمنح الحياة الديمومة، والخلاصة، تتداخل الأفكار ازاء العنونة فتنتج بعدا فلسفيا، ويقابل محتوى الكثير من القصائد، والعنونة هنا لا تؤكد بذاتها البعد الفلسفي، لكن عبر الاطار الدائري في التفسير المطلوب من عنونة كهذه ، نجد أن هناك تكريسا لبعد فلسفي، وأخيرا نقف على ناصية البعد الاستاطيقي في العنونة، حيث لونيا هناك وحدة جمالية وايقونيا أيضا، ومن الطبيعي أن تنفذ الى كيان النص الشعري من خلال التعالق النصي بين العنونة ومتن القصائد.
المثال الشعري ورؤيا الشاعر
يقدم لنا مقداد مسعود في قصائد "كوب أزرق"، أمثلة شعرية هي ليست في مجملها من الخيال الشعري، وتجد أغلب الصور الشعرية لا تخلو من ذلك، وأقصد بالمثال الشعري هنا، هو موضوع مركَّز يجعل الصورة الشعرية تنتقل من هيمنة النص في تفسيرها، الى ادراك الشاعر بها، لكن ليس بتحكم شخصي، بل برؤية ابداعية، والمثال الشعري أيضا بوصفه نتاج تجربة بين وعي الشاعر وذائقته الشعرية، ففي قصيدة "سيرة... غير شخصية" تبدي العنونة ابعادا دالة، حيث مفردة – سيرة – لم تتصل مباشرة بالمفردتين التاليتين، والنقاط تمثل موقف تحديد دال، والعنونة تتوافق مع المبدأ الشعري في المعنى الذي سعت اليه:
كان الليل: مصباحنا اليدوي في البحث عن اسباب الشهيق
نهارنا.. في ليل كهفنا نبصره ونغزل صبرا
بلغ طوله مليون سنة فقط
فأورثنا الصبر هذه الأم المعشوشبة الخضلة المعدنية...
وأورثنا الظلام تطوير عمى الالوان
وهكذا اختفت مخاريط اللون في شبكيات عيوننا
كم يحتاج قارئ تاريخنا
من مخيال ملحمي
ليكمل.....
خارج ايروس الافتراض..
لقد قدم الشاعر مثاله الشعري الذي يقابل وعيه، وعلى وجه الخصوص وعي القراءة، وقد رسم ملامحه في هذا المقطع الشعري، حيث تشير الصورة الشعرية الى عنصر وعي، مثلما تشير الى بناء مستحدث في سياق جملها، حيث الغرض الشعري لا يسعى إلى التأثير العاطفي، بل البعد الفكري ومنظومة الوعي في الخطاب الشعري، بينما لم يغب البعد الاستاطيقي عن كيان القصيدة .
ان رؤيا الشاعر وحلمه وقضيته، جميعا قد تكرست في خطابه الشعري، وأن وحدات التمثل في القصائد هي، خارجيا وعي ذاته، وداخليا وعي نصه الشعري، وطبعا تقترب تلك الصيغة التي تمثل الرؤيا، من مالارميه عالميا، ومن عباس بيضون عربيا، حيث لا بد أن يلازم وعي الذات وعي النص، ففي قصيدة "شفق في جبة السهروردي"، هناك محاكاة لكيان السهروردي وقيمته التاريخية، لكن المتن الشعري المرقم كمقاطع شعرية يستهل بفكرة ذات بعد دال مختلف.
ليلة.... يا حلب
حلمي... يكرر هذه اليقظة:
أشجار تركض تركض تركض....
في حلم واقف
الناس: حشف يتساقط من نخلة واحدة
البوق: يلطخ قمصاننا...
ثم يرمي بنا من قلعته المسرعة..
هنا توالت معان من انساق مختلفة الزمن، ففي بداية الاستهلال كان هناك معنى بارع في جملة – حلمي... يكرر هذه اليقظة، ومن ثم تغير ايقاع الزمن بعد ورود فعل بزمن محدد، وهنا تحدد المعنى بواقعه، والصورة الشعرية كانت هنا بيانية، وصارت بصيغة فنية جمالية، حيث هناك صورة شعرية هي عمودية، تقابلها صورة أخرى افقية، وهنا تقرأ القصيدة من جهة حسيا، ومن أخرى تكون ممكنة التلقي للقارئ العادي.
إن اللغة في السياق النثري تكون ممتلئة دون أن تبلغ مستوى الترهل الذي كثيرا ما بلغته قصيدة العمود والتفعيلة أيضا بنسب أقل رغم جوف اللغة، ويجب أن نعرف أن المحو لا يولد سباتا بعد إنهاء وظيفته، بل إن وظيفته هي متراكبة ومتلازمة وصفة، وتلك الميزة تنتهي بانتهاء آخر جملة في القصيدة، وهذا ما يمنحها التميز والهيبة والسمو الجمالي المتجدد أيضا، وطبعا لا نقصد هنا رسم موقف أيديولوجي للنقد، بل توجهنا نحو عامل المقارنة هو من اوجد الفوارق الدلالية وليس الاعتقادية فقط، وهذا جانب طبيعي في أن يتميز النص النثري شعريا بإطار السمو والتصاعد، فقد امتد تاريخ العمود أفقيا لقرون، ولم يقدم للإنسان ماهية خلاصته عبر الإطار الأدبي للشعر، فيما السياق النثري انبثق من تلك الخلاصة وتصاعد بها داخل الجوهر الإنساني دون أي إزاحة للذاكرة البشرية.
اشتملت قصائد "حافة كوب ازرق" على مقومات لغة شعر رصينة القيمة الابداعية، ففي قصيدة "ليلة مندلستام" هناك صور تميزت بسياق جملها الشعرية، حيث تجد المفردة غير خاضعة لسياق لغوي، وهي تتجه الى عنصر الجرأة الأدبية في كيان الشاعر ورمز وعيه، للتمثل به، وتلتزم بحسه الأدبي، وبذلك قد خففت حدة ايقاعها، وكذلك ساهمت في تكوين صورة شعرية غير نمطية المفردات:
هل نكاية بهيغل؟
صيروا الافتراضي حقيقتنا الكالحة
جعلوا النهار:خفاشا يتدلى؟
وها هي المرايا
لا تكف عن التأمل في ذاتها....
هل المرايا
أمكنة لزمان مبعثر
تؤكد نفسها بالممحاة؟
في قصائد "حافة كوب أزرق" نجد أنّ النص الشعري له لغته التي تتعدى الوصف الاجتماعي وتفسر شكل أنماط الحياة، بل تسعى نحو تحقيق حس الشاعر وما عبر عنه غوته في أنّ الشاعر ليس هو الذي ينظم الشعر، بل هو الذي يعانق العالم وكما يمكنه بعد ذلك التعبير عنه. وفي هذا السياق يمكن أن نقر بحقيقة الشاعر الوجدانية التي تتحرك كفطرة نص وتحقق بالتالي غايات الشاعر وعلى الأخص تفسيره كينونة الوجود، وقد بلغ وجوده المفترض داخل نصوصه الشعرية، التي قادتنا الى عالم مختلف من القيم الشعرية.