ادب وفن

قصائد بوب ديلان الغنائية السياسية*

ترجمة: جودت جالي
في يوم 26 تشرين الأول 1963 قبل 54 عاما "يبلغ بوب ديلان الآن 75 عاما" غنى أغنيته "الأزمنة تتغير"، في خضم انتفاضة حركة الحقوق المدنية، وكانت هذه الأغنية تقوم على قناعة بأن الحركة نحو التغيير الاجتماعي لا يمكن إيقافها، وأن التاريخ لا بد أن يخضع الى المثل الأخلاقية: "تعالوا يا كتاب ويا نقاد/ يا من تتنبؤون بأقلامكم/ وأبقوا عيونكم مفتوحة على سعتها/ فالفرصة لن تتكرر/ ولا تستعجلوا الكلام/ فالعجلة ما زالت تدور بكل سرعتها". تكمن عبقرية بوب ديلان في الربط بين الكليّ ولحظة تاريخية محددة.
إن أغاني الاحتجاج التي جعلته مشهورا وبقيت صورته مقترنة بها كتبت خلال فترة قصيرة لا تتعدى 20 شهرا، من كانون الثاني 1962 الى تشرين الثاني 1963، متأثرا بالتقاليد الراديكالية الأمريكية "حركة عمال الصناعة والجبهة الشعبية لسنوات الثلاثينيات والأربعينيات وفوضويو الخمسينيات"، وبالحركة الشبابية ضد القنبلة الذرية ومن أجل الحقوق المدنية وقد انخرط بأغانيه ضد الفقر والعنصرية والسجن والشوفينية والحرب. كذلك كتب أغاني حب فيها مزيج من الأسف والصراحة الجارحة. أعطتنا هذه الفترة العاصفة "دعني أموت واقفا، وفي مهب الريح، وسيهطل مطر شديد، وبيدق ضعيف فقط في لعبتهم، والله معنا" التي ينبذ فيها الأصولية الأمريكية، و"أسياد الحرب" عن الصناعة الحربية، والأغنية الانتقامية المرحة "عندما تدخل السفينة" والأغنية الرائعة "هاتي كارول" عن حالة ظلم أصبحت رمزا لمقاضاة نظام وتتعلق بمقتل زنجية على يد شاب أبيض من أثرياء تجارة التبغ.
جدد ديلان بقصائده الغنائية الفريدة بشعريتها وببراعته الموسيقية الأغنيةَ الاحتجاجية وجعلها تصل الى جمهور جديد. عندما ظهر ألبوم "الأزمنة تتغير" في كانون الثاني 1964 كان الشاب البالغ من العمر 22 عاما قد أصبح ممثلا مكللا بالغار لحركة إجتماعية ولقب ﺑــ "صوت الجيل". لكن ديلان قرر أن هذا ليس هو ما يريد أن يكونه، لأن ديلان الذي يُعد بمثابة "وودي غوثري" الجيل الجديد "وودي غوثري 1912-1967 مغن وكاتب أغان ومناضل شيوعي أمريكي كان بوب ديلان أحد الذين تأثروا به ثم" يمر بمرحلة تحول تجعل معجبيه الأوائل غير مرتاحين، وكما عبر ديلان في لقاء صحفي آنذاك: "لا أريد أن أكتب للشعب بعد، يعني أن أكون ناطقا بلسانه. من الآن فصاعدا أريد أن أكتب من داخلي.. لست جزءا من أية حركة".
كان يسجل وقتها أغنية "صفحاتي الخلفية" وهي إنتقادية للحركة التي مجدها في (الأزمنة تتغير) فيحمل على الذين يستخدمون "الأفكار كالخرائط" ويتفوهون "أكاذيب من أن الحياة سوداء وبيضاء" ويفشلون في فهم "أني أصبح عدوي في اللحظة التي أقوم فيها بالوعظ" مستاءا مما تصوره عثورا على الإستبدادية في قلب حركة التحرير "وفي داخله"، فيتمرد محتقرا ما يراه ثقافة النضال السياسي الميتة: "تخليد سياسة/التاريخ القديم" ويقول في أغنية أخرى: "المساواة، لفظتُ الكلمة، كما لو كانت عهد زواج، ولكني كنت أكبر عمرا بكثير عندئذ، وأنا الآن أصغر عمرا "، إن الراديكاليين السابقين عادة ما يعزون تخليهم عن تمردهم الشبابي لبلوغهم مرحلة النضج المسؤول، غير أن ديلان يقلب المعادلة فالإنسحاب من السياسة بالنسبة له إنسحاب من مواقف عتيقة مستهلكة، إنه يدعو الشباب الى التمرد على الأفكار المسبقة أكثر مما هو يتنكر ﻟــ "الأزمنة تتغير".
حقا إن إنفصاله عن السياسة حرر موهبته الموسيقية والشعرية وحفزته لإستكشاف أعماقه وأصبحت أغانيه أكثر غموضا متخلصة من السرد المتماسك لصالح سريالية كرنفالية، وحل محل الشاعر الجوال شاعر الروك أند رول، فولدت أغاني "مثل حجر يتدحرج". لقد وصفت الأغاني عالما داخليا ولكن أغان عديدة صيغت إستجابة لأحداث عامة مضطربة والواقع أن إلتزام ديلان السياسي إستمر بصيغ ورؤى أخرى.
نلاحظ أن العديد من نقاد ديلان اليساريين فشلوا في رؤية الدوافع السياسية التي شكلت روائع أواسط الستينيات، فأغنية "مزرعة ماجي" تصور النقمة الطبقية للعمال المأجورين في مواجهة الطبقة التي تمثلها إمرأة "تتحدث لجميع الخدم عن الإنسان والله والقانون" والدولة "يقف الحرس الوطني حول بابها" فيما تثبت التجربة أن النظام الإجتماعي مخيب للآمال "أحاول جهدي لأبدو كما أنا بالضبط/ ولكن الكل يريدونك أن تكون كما هم بالضبط". توجد أيضا ثيمات إستكشفها في "لا بأس يا أمي، أنا أنزف فقط" موجها إصبع الإتهام الى مجتمع بني على النفاق والجشع. برغم أن ديلان لم يتعامل مع قضية فيتنام مباشرة إلا أننا نعرف أنه سجل "العودة الى الطريق العام 61 وموسيقى بلوز شاهدة القبر" وقد قال فيما بعد أن القائد الأعلى المقصود في الأغنية هو الرئيس لندن جونسون.
في هذه وغيرها من أغاني تلك الفترة لا يطرح جانبا السياسة بل يعيد تحديد أفقها من خلال الهموم الأكثر حميمية، إن "رؤيا جوهانا وطريق مهجور" مفعمتان بالحزن الحميم، وعندما صاح أحد الحاضرين طالبا أغان إحتجاجية رد عليه ديلان: "هذه كلها أغاني إحتجاجية يا رجل".
مايك ماركوزي/ الجريدة الأوغندية ريد بيبر (الفلفل الأحمر)