ادب وفن

نون النسوة في رواية "كل من عليها خان" * / د. جميلة مصطفى زكاى *

يشكل العنوان في الإبداعات الأدبية والفنية النافذة التي تفسح المجال أمام القارئ ليلج معالم النص مستكشفا مضامينه وأفكاره ومكامن الجمالية التي يحفل بها، كما ييسر معرفة نمط النص ونوعه بغية وضعه فبي مكانه المنوط به، كذا لتيسير إقبال المتلقي على المجال أو الجنس الإبداعي الذي يود الاطلاع عليه والإلمام بمكنوناته.
ويؤدي العنوان دورا جوهريا في فهم المعاني العميقة بالعمل الإبداعي والأدبي لكونه العتبة الأولى التي يدرج بها القارئ طلبا لاستكناه معالمه وعوالمه. وقد يتسلح برؤية أو منهج في مقاربة ودراسة هذا العنوان ونقده والعمل على تشريح مضامينه متى أحسن اختياره وفق ما يتطلبه مضمون العمل ويوائم أغواره.
وعليه، شغل العنوان في ثنايا المنهج السيميائي مساحة واسعة؛ فكان محل نقد وتأويل لفك طلاسمه واستجلاء مواءمته معاني النص ومضامينه. وهذا ما كفل له ان يكون أول درجة في سلم النص لما بينه وبين النص من علاقة تكاملية...
وعنوان "كل من عليها خان" للسيد حافظ هو عبارة عن جملة إسمية تستهل بـ "كل" التي توحي بالجمع والشمولية المطلقة، فيأتي بعدها "من" الاسم الموصول المشترك الذي يؤكد معنى سابقه، لكنه يحدد مساحة الإطلاق بدلالته على العاقل الذي قد يكون المرسل أو المرسل إليه الذي احتفى به النص الروائي من بداية السرد إلى نهايته. وقد أصرّ المرسل سرد واقع أليم جمع فيه بين الماضي والحاضر وبينهما تشابه وتماه..
وإذا كان المرسل إليه كيّسا حويطا متفقها حكيما سيتقبل هذا الواقع بعلاته، فيعايشه من الاستهلال إلى النهاية، فتبقى عينه حريصة على متابعة السرد وتقصيه في تداخله عن طريق الحكاية في الحكاية والواحدة منها أشد تشويقا وإمتاعا وإيلاما أو حتى إيذانا بالوجع والألم والتقزز إلى جانب الانبهار والدهشة والرعشة..
قد يدل الاسم "من" على عموم العقلاء وحتى المجانين الذين يملؤون المعمورة إيجابا وسلبا، بخاصة إذا تم فحص الجار والمجرور الذين ذيلا "من" والضمير "ها" الذي يعود فيه على الفضاء الجغرافي الانساني الذي يتحمل ما يقترفه هؤلاء بصبر وسعة صدر، بينما يقابل هذا الشعور الانساني وهذا العطاء اللامتناهي بالخيانة والجحود والنكران وقد تجسد ذلك بالفعل الماضي الذي ينهي صياغة العنوان "خان". وعلى الرغم من ماضوية الفعل إلا أنه يتماهى بالحاضر دلالة وإيحاء، إضافة إلى ما يحويه من استفزاز وإثارة وجرأة وعصيان...
يبدو هذا العنوان ظاهريا متجافيا مع نون النسوة لكن الجفاء والخيانة نسبيتان.. إذا كانت نون النسوة تعول على التأنيث فهي ضمن هذا الكل الذي تشكله وتتحكم فيه ببراعة وراحت تمسك بزمام بنائه حكاية حكاية وحدثا حدثا. ..
وإذا تعود المرسل إليه المقهور قبل الآن على عنوان واحد، فإن كل من عليها خان جاء مرفوقا بستة عناوين أُخر تكفل له الحرية في الانتقاء وهي على النحو الآتي:
فنجان شاي العصر ، الرائي، العصفور والبنفسج ، كل من عليها جبان ، كل من عليها هان ، كل من عليها بان.
يبقى السؤال مطروحا متى سيتم اختيار القارئ للعنوان؛ وهو تاج العمل، ببداية القراءة أم حين يدرك منتهاها؟ لا يغبط القارئ أبدا على دلاله ومساحة حريته لأنها عناوين مفصلية لمضامين هذا العمل السردي الذي يعلن العصيان على المضامين والأشكال... وسيحتار المرسل إليه في الاختيار نزولا عند رغبة المرسل الذي عده صديقا وشريكا بهذه المؤامرة السردية فكريا ودلاليا:
صديقي القارئ يمكنك الآن أن تختار عنوانا من السبعة وتبدأ في قراءة الرواية بالعنوان الذي اخترته أنت..
دعك من اختياري فأنت الآن شريكي....
وطالما التذكير بالعرف العربي يحوي التأنيث فلا شك أن الاختيار مُقترح لنون النسوة أيضا، وما لا يؤنث لا يعول عليه... وعلى الرغم من أسلوب التعدد بالعنوان لكن "كل من عليها خان" تصدر وأوحى وعبر ودل ولا يُظن بأي مرسل إليه أنه له ناكر وعنه ملتفت...
مخادنة سهر وشهرزاد
تتربع "سهر" بعرش حكاية الروح الرابعة وهي زوجة منقذ وعشيقة فتحي الصحفي المصري؛ سر خطير لا تعرف به غير سهر وصديقتها شهرزاد القناة الأصلية للبناء الروائي التي يعول عليها في تحمل السرد الحكائي ذي الحلقات المتكاتلة فيما بينها. شهرزاد هذا الاسم الذي يوحي على الفور بالذكاء والدهاء والحيلة والقدرة على الفتك والنيل من متلقيها، كما أنها الأنثى التي تلت ثلة من النساء قبلها لتوقف سلطة الرجل، وتتمكن من دحض جبروته وكسر شوكة تعنته. هي التي أوقفت جرم شهريار وجسدت رغبتها في البقاء، مصدر فتنة واستجابة وسعة صدر وصبر وأناة وتحكم... فانصاع الرجل لحلاوة لسانها وصنعتها الحكائية التي لم تنل من شهريار فحسب بل سيطرت على أعداد من المتلقين لا تحصى ولا تعد...
شهرزاد "كل من عليها خان" تضارعها حنكة في كسب الزوج وخدمته.. وهي زوجة حامد الصقر كما كانت لسهر صديقة وأمّا وخالة تحفظ سرها وتنصحها محاولة تفهمها، وهي العجوز "كما أشارت تهاني لزوجها فتحي" والحكيمة التي استطاعت تشريح نفسية فتحي من خلال مقالاته عن سهر.
ومن ناحية أخرى فهي الرائية التي استشرفت ما سيحدث لها عن طريق عطرها فحدثت النبوءة. كما تمتلك شهرزاد مفاتيح الروح والقلب، بل أكثر من ذلك فهي عمدة دبي المتحكمة بنبض شوارعها وأزقتها وأحاسيسها وانفعالاتها" إن شهرزاد هي التي تعرف مفاتيح الروح والقلب.. وحين سكتت شهرزاد سكتت شوارع دبي.. وحين تحزن شهرزاد تحزن دبي.. المدن نساء والنساء مدن...وتعود شهرزاد إلى دور الأم النصوح التي تخاف على سعادة ابنتها من بلاعة العشق المجنون وتشور عليها بترك حب فتحي وتعويضه بالإدمان على العمل ليل نهار لتتخلص من قوى الهوى القاتل بخاصة وهي خيانة زوجية.
أما سهر فهي المقصودة أكثر من شهرزاد في هذا العمل، إذ تتحول من المذنبة إلى الضحية وتجعل الآخر يتعاطف معها، مع أن علاقتها بالصحفي المصري خيانة زوجية لا تقر بها ولا تقبلها أية ديانة سماوية أو عرف من الأعراف...هي الفاتنة التي سلبت عقول عشرات الرجال قبل منقذ زوجها. وتبدو ظاهريا "أبرأ من براءة الملائكة والندى والأطفال "لكنها تقتل بفتنتها يوميا عشرات الرجال والشباب... هكذا يصور السيد حافظ صورة المرأة فيعتبرها وطنا ومدينة ومسكنا ومرفأ، لكن عشرات النساء تسللن من ثقب روحه فلم يعد يتذكرهن" وقد كانت مدن النساء تحاصره "وتحاصرني مدن نساء متآكلة الأحلام والرغبة والجنون.."
لكن الوطن على الرغم من خيانته له لا يزال يعشقه؛ فهو العشق المنزه عن النسيان والإقصاء والانتقام فيستنكر التوبة والعدول عن عشقه" كيف أتوب عن عشق وطن زنت به كل الحضارات واحتُل 7 آلاف عام .."عقد الكاتب مقابلة بين عشقين سكناه فيرجح في كل مرة كفة الوطن... ونسيت أسماء نساء كثيرات مررن من ثقب الروح والقلب المجروح والعشق المفضوح.. ولم أنس أن هذا البلد ذو الجورب المثقوب العطن أهانني طوال العمر.. وفي موضع آخر يجيب فتحي عن سؤال زوجته تهاني ،هذه الغائبة الحاضرة بقوة التي تحس وتداري إحساسها نظرا لحبها المستميت لزوجها، إن كان لا يزال يحب مصر فيجيبها وقد غالبتها العبرات قدري أن أحب تلك الخائنة ..
وانفجرت الدموع من عينه وهو يمضغ الطعام ببطء شديد ..
يحدث أن ييأس الكاتب من حب الوطن فيستبدله بحب النساء الذي يسهل عليه الظفر به لانه ملك راحتيه وعنفوانه وعطره، بينما الوطن في أياد أخرى تدنس أكثر مما تنظف وتطهر ولذلك يستسلم لسلطة الحب حيث الدفء والحنان "بينما الأوطان بمثابة أكفان "أنت وطني يا سهر وانا وطنك فهذه ليست أوطان بل أكفان ونخدع أنفسنا ونكذب ..الحب أحلى وطن للإنسان وليس المكان. الحب يبدأ بالنساء ..وينتهى بحب الألوان." ولا مرفأ للأنا الساردة متى جفا الوطن إلا نون النسوة التي تعوضه عن الجفاء والحرمان..
ــــــــــــــــــــــــ
* مقطع من دراسة مطولة
* ناقدة من الجزائر