ادب وفن

"ذاكرة الموتى".. جدل ذهني / وجدان عبدالعزيز

بعد الفراغ من قراءة نصوص "ذاكرة الموتى" لمؤلفه عبد جبر الشنان، وجدتها نصا واحدا تضمخ بوجع الحياة، حيث خرجت نصوص النص الواحد من معطف الحروب والأوجاع والفقدانات، الا ان الكاتب الشنان اضفى عليها معالم حياة تبحث عن السلام، أي أن الانسان في هذه النصوص صانع للسلام، ورافض للحرب والعدوان، وهذا المعنى أُستل بصعوبة من لغة اكتنزت بالأنوثة الفائضة الفاخرة، ساحبة معها المعنى بعيدا نحو اطراف حدائقها العاجة بلذة الجمال، ويمسك الكاتب العصا من الوسط، ليقف في الطريق المؤدي الى بحث مضن عن كليهما، اي اللغة كنسق من الإشارات والرموز، والتي تشكل أداة من أدوات المعرفة، وترتبط ارتباطا وثيقا بالتفكير الانساني، ويحاول من جهة اخرى الامساك بالمعنى المراد صياغته، بيد ان الكاتب تمثل عاشقا تليدا للغة، لا ينفك من ممازحتها برقة، وهي تنزلق كقطيرات الندى على اوراق روحه التواقة، بيد انه حاول جاهدا ترويضها بنوع من فلسفة الحوار، ذلك الحوار الذي يتوسل المعنى بديمقراطية ادبية ثقافية، حتى صنع من نصوصه المنتظمة في سياق نص واحد، حياة ضاجة بأوجاعها عبر تجربة واضحة من اجترار واقعها المر، وتحويله الى واقع متخيل هارب في اتون الآلام والفقدانات، قد يبدو لأول وهلة ان نصه هذا، نصا مفتوحا عابرا للحدود، أي يستمد حيوية الخلق من كافة الأجناس الابداعية والحقول المعرفية، سرد وشعر ومسرح وفنون تشكيلية ودراما مرئية، وكذا انه يقبل التأويلات المحتملة، وحسب حالات التلقي، ويقابل هذا النص. . النص المغلق الاحادي الجانب الغائم الدلالة ومثاله النصوص العلمية والقانونية، وقد "كان رولان بارت يشبه النص المفتوح بالعلاقة المنجبة والمنغلق بالعلاقة التي لا تنتهي بالإنجاب، فتلك العلاقة في الحالتين لا تجري إلا بين شريكين، لكل منهما دوره، وبالتالي فسلامة العملية الإبداعية إن كانت مرهونة بالقراءة الصحيحة، فهي مرهونة في مرحلة سابقة بكتابة أيضا "صحيحة" أي ثرية بالجماليات والدلالات والمواد الخام التي يصنع منها كل متلق رؤى وتفسيرات، قد تكون مغايرة لما يصنعه غيره من نفس المواد. ولنبدأ من نص "معطف" الذي حمل صراعا تقليديا بين الحياة والموت، الا ان اللغة الفاخرة البليغة كما اشرنا، اعطت الموضوع روحا جديدة كما في المقطع التالي :"آه... الأيام منطفئة وهي تقلم أضافرها بضجر... وتحلم بنزهة مرحة مع هذه الصباحات العوانس.
ـ أعتقد انه لم يعد امامنا متسع من الوقت للموت. .. مثلما لم يكن لدينا الوقت الكافي، لنستمتع بالعيش وسط هؤلاء الحمقى وهم يلهون بمصائرنا، اذن هذا الوجع والضجر مع معاشرة الحمقى، اصبح الوضع سيان بين الموت والحياة هنا، لكن الكاتب صانع للحياة، وكما قلت فان النص يشظى في نصوص، وكاستدراك نتناول نص "شهقة"، رغم ما فيه من وجع وحالات يأس واحباط ايضا، الا ان هناك قرائن، وهي الصبية عنوان الشباب وشجرة الرمان المزهرة، و"كان لديها المزيد لتقوله في صباحات اكثر عذوبة.."، يعني هناك رؤية مستقبلية، وكذا نص "نزهة ذابلة"، فحمل العنوان حالة الذبول، الا انه تصاعد في نسغ الحياة، فكان البطل يحتقر الضجر، وكانت الصبية، "تنصت لشدو حياة جديدة"، ويتصاعد الصراع بين رذاذ الحلم ونهاية البطل. .. "لقد بلله موت رزين"، والحصيلة كان انتصارا للحياة.. فالكاتب الشنان انهمك كثيرا وتوغل عميقا في طريق اللغة ورسم لوحات لغوية تشكيلية حوارية، اعطت مسوغا للمتلقي ان يعيش اجواء النص المفتوح الحافل بالتأويلات والعابر للحدود الاجناسية وبالتالي محاولة استلال المعنى المتخفي في كثافة اللغة.. ففي نص "الراكض خلف المنايا" مقارنة بين مدينة الناصرية، وبين مدينة طنجة، الشوارع في مدينة الناصرية "تحتضر وازقة ثكلى وبيوت تتلفع باليتم لتخفي شقاءها..."، اي ان الناصرية تعاني الاوجاع من ويلات الحروب، وطنجة التي "يعصرون الكروم لتسيل منها عافية النبيذ"، وهذه دلالة على رخاء واستقرار طنجة، اي مقارنة بين السلام وبين الحرب وانعكاساتهما على مجمل الحياة ومساراتها. . وخلق من نص "عناق" شخصية معيوف العامل البسيط والمحب لعمله ومكان عمله المدرسة وانهماكه في استقبال معرض الاعمال اليدوية والتاريخ الطبيعي، حيث يعيش معيوف اجواء الحيوانات المحنطة، اي اتخذ من مكانها المكان الوحيد الذي لا يسمع فيه اوامر تعسفية. .. "فستختفي زوجته الرعناء وكذلك مدير المدرسة المتقزم في اكوان بعيدة ونائية، فقط هو وحده يدب بخفة مع الزواحف على ارضية القاعة ويشعر بهناء غامر، وهو يرفرف بأجنحته الهلامية مع الطيور المحلقة في فضاء القاعة التي بدا له انه يراها تتسع لسماوات اخرى تلاحق طيوره المرفرفة بمرح مطلقة اصوات ملائكية يسمعها للمرة الاولى في هذا المكان"، هذا الجزء من النص عكس حالة معيوف النفسية ومحاولة انسلاخه من واقعه المحيط الى واقع متخيل افتراضي، حتى وقع مجنونا محلقا بعوالم حالمة.. هذه الحالة نقلته الى رفض المجتمع له، حتى "سقط مغشيا عليه حينما لم يجد المحنطات، نظر بألم وعتاب عميق الى الحارس المناوب الذي قال بدوره : كان معيوف في حياته وفي موته ايضا"، فالشخصية عند الكاتب الشنان يصنعها الواقع بضغوطه، رغم استدراكه بفخامة اللغة، الا ان هذه الشخصيات تبقى تعاني العوق الاجتماعي، نتيجة الفقدانات التي تعانيها، ومن ثم تسقط بنهاية فجائعية مؤلمة. . كما حملها النص "خريف زليخة".. "انزليني، انني اشعر بالدوار ـ ممن؟ ـ من هذه الارجوحة اللعينة". ولم يكن هناك ارجوحة، وشعور الشخصية بالاهتزاز، وهذه كناية عن اهتزاز العلاقات الانسانية وانحرافها عن مسارها الصحيح. . وفي نص "تعاسات انيقة"، اعطى الاناقة للتعاسات والكسل للصباحات في موضع آخر، وخلق توترات بين المتناقضات من خلال لغة جاذبة مشوقة صادمة للذائقة، حاملة للدهشة.. ويعمق هذا في نص "ممازحة الذيول". . "سكون مبهم يطوق نهاراته بالمرارة وحياته ترتجف بشكل بشع وانطفاء هلامي يطاردها بغبطة وكمن يبدأ صباحاته بالتثاؤب، تمطى.." كي يعلن ثورته الرافضة لما هو قبيح تحمله الحياة تحت ظل الحروب الحقيرة التي شلت سعاداته، وجعلت كل ما حوله بالمقلوب.. وتبقى نصوص الكاتب عبد جبر الشنان المنتظمة بنص واحد مثار نقاش وجدل ذهني اكثر منه، ان تكون مثار جدل في شؤون الحياة الأخرى.