ادب وفن

رواية (يا مريم) للروائي سنان انطون / عبد علي حسن

لا يخفى على أحد - في داخل الوطن وخارجه - الظهور القوي والحاد للتضادات الدينية والطائفية التي عصفت بالبلاد منذ 2005 وقربتها من حافة الحرب الأهلية، وبصرف النظر عن اسباب هذا الظهور - الموضوعية منها والذاتية - فان تهديد الوجود البشري ولكافة الانتماءات الدينية بات قائما سيما وقد انتقل الى مستوى التضاد المسلح والدامي الذي تمظهر في مظاهر عدة كالاغتيالات والتفجيرات والاختطافات والتهديدات والاغتصاب والسبي وما الى ذلك من مظاهر الاقصاء الوجودي للآخر، وكان من نتائج كل ذلك ان لا احد يطمئن الى أحد، وازاء كهذا حال وجد الروائيون العراقيون انفسهم في منطقة تستدعي الاستجابة لهذه المظاهر متخذين من الوقائع اليومية المعاشة في الذاكرة الجمعية للفرد العراقي مدخلا لمعاينة هذه التضادات لا لتكون سجلا توثيقيا او وثائق تأريخية تدين هذا الطرف او ذاك وانما لتقديم عمل ادبي وفني تحكمه الشروط الاجناسية يتهيكل على معطيات الواقع الذي تنتهبه تلك الانتهاكات والتضادات، ولم تقتصر استجابة الروائيين العراقيين في الداخل فقط وانما تجاوز ذلك الى استجابة الروائيين العراقيين المغتربين خارج الوطن ايضا الذين أسهموا على نحو واضح ومؤثر الى درجة لفتت أنظار المهتمين بالشأن الروائي الذين وصفوا هذه الروايات - وأغلبها قد دخل مسابقات عربية وعالمية مهمة ومعروفة - ضمن النسيج الروائي العراقي، كما اثبت كتّاب هذه الروايات قدرتهم على التماهي والتواصل مع مجريات ومعطيات الواقع العراقي الجديد منذ نيسان 2003 عبر تقنيات روائية جديدة ومعاصرة اتسمت بقوة التخييل والاحاطة بالواقع والفن الروائي على حد سواء. وبهذا الصدد يمكننا ان نشير الى عدد من الروايات التي اشتغلت في هذه المنطقة المهمة - على سبيل المثال لا الحصر - رواية - عازف الغيوم للروائي علي بدر وفرنكشتاين في بغداد للروائي أحمد سعداوي وطشاري للروائية انعام كه ججي وسيدات زحل للروائية لطفية الدليمي فضلا عن مساهمة الروائيين العراقيين في الداخل وتصديهم لهذه المظاهر.
ومن الروائيين العراقيين المغتربين الذين اشرت اليهم الروائي سنان انطون وتحديدا في روايته "يا مريم".
تتهيكل رواية "يا مريم" على حدث واقعي حصل في بغداد عام 2010 وهو اقتحام مجموعة مسلحة مجهولة كنيسة النجاة قبيل اقامة القداس ليوم الأحد بوقت قليل إذ كانت القاعة محتشدة بالمصلين وكان نتيجة هذا الهجوم سقوط عدد من القتلى برصاص المهاجمين. لقد اتخذ الروائي هذا الحدث ذريعة لبناء نصه الروائي الذي امتد ليكشف عن دواخل الشخصيات وما تشعر به ازاء تهديد وجودها وانتمائها الديني بعدّه هوية راسخة في البنية الاجتماعية العراقية منذ زمن طويل قد يمتد الى مئات السنين، الى جانب بقية الطوائف والأديان التي شهدت تعايشا بين المنتمين اليها، وقد تشكل هذا الامتداد عبر شخصيتين رئيستين "يوسف" الثمانيني و"مها" قريبته العشرينية التي تسكن وزوجها في الطابق العلوي من بيت عائلة يوسف الفارغ الا منه بعد هجرة افراد الاسرة الآخرين وموت اخته الراهبة "حنه". ويتولى السرد في أقسام الرواية الاربعة ضمير المتكلم/ راو كلي العلم وضمير الشخص الثالث / راو عليم. لينسج الروائي روايته عبر الافتراض المتخيل للشخوص والأحداث مستثمرا الوقائع الحقيقية المعاشة ليشكل حولها نصه الروائي الافتراضي عبر الافصاح المقترب من الواقع.
ويشير العنوان بعدّه العتبة الأولى للنص الى دلالة واضحة الى ما يمتلكه الاسم من دلالة دينية للدين المسيحي ارتباطا بلوحة الغلاف التي تمثل امرأة ممسوخة الوجه تضم الى صدرها طفلا أيضا غائم الملامح. .الا ان ذلك لا يبعد التدليل على ان اللوحة تمثل السيدة مريم العذراء ووليدها السيد المسيح ولعل غياب ملامح الوجهين يشير الى دلالة عامة الى أي امرأة وطفلها. وبذا فان هذه الدلالة العامة قد خرجت بدلالة العرف الديني لمريم ووليدها.
وبالإمكان عد عنوان الرواية وكذلك لوحة الغلاف نصوصا مجاورة او خارجية ندخل من خلالهما الى متن النص الروائي. وبمعنى آخر فان هاتين العتبتين تعدان منصات خارجية.. فالعنوان يشير الى بث استغاثة أو مخاطبة لوجود "ياء" المخاطبة ولتحديد الدلالة فان المستغاث بها هي السيدة مريم بتضافر هذا الدال مع العتبة الثانية وهي لوحة الغلاف - وليس امام المتلقي الا ان يتقصى دوافع هذه الاستغاثة المقترنة بالدعاء في ثنايا النص الروائي، وبذلك سيكون العنوان ذو بنية لغوية وسيميائية في آن واحد لما يتضمنه من دال ومدلول، وتشكل المقولة التي تلي هاتين العتبتين عتبة ثالثة اذ ينقل النص مقولة من انجيل يوحنا "جاء الى بيته فما قبله أهل بيته" وتعد هذه العتبة مدخلا مهما للنص الروائي، فهي تحمل اشارة متجاوزة لحيثيات المقولة الخاصة لتتخذ مدلولا عاما يستوجب التقصي في ثنايا المتن الروائي، وهي – المقولة - تشير الى من يلجأ الى بيته الذي يأويه وينتمي اليه الا ان أهل بيته جحدوه ولم يقبلوه بينهم، وستعتمد هذه المقولة كدال وكل ما سيرد في النص الروائي انما هو مدلول لدالة المقولة. .فأي معاناة سيتحملها ويعيشها من يرفضه اهل بيته ويجحدونه؟ وستتضافر الدوال الثلاث - العنوان / لوحة الغلاف/ مقولة انجيل يوحنا - في تخليق فضاء تلقي مهم لتقصي المدلولات في وقائع الرواية باتجاه تفصيل الوقائع المعاشة فعلا، وتسهم "ملاحظة" المؤلف في الصفحة الأخيرة من الرواية / الكتاب/ في تعزيز أثر العتبات المشار اليها آنفا في تلقي الرواية، اذ تشير هذه الملاحظة الى "تتقاطع أحداث الرواية مع حادثة الهجوم على كنيسة النجاة عام 2010، لكن النص بما تضمنه من أحداث وشخصيات انما هي مفترضة ومتخيلة، وأي تطابق او تشابه في الاسماء غير مقصود. وقد درج أكثر الروائيين العراقيين على وضع هذه الملاحظة في اول الكتاب او في نهايته للخروج من مأزق التسجيل والتوثيق كما تشير الى النية المسبقة لكتابة رواية ادبية فنية تقوم على حوادث حصلت فعلا باتجاه الافصاح عنها. الا ان ما يرد من أحداث اخرى جانبية او بناء لشخصيات فهي مفترضة ومتخيلة، وفضلا عن حادثة كنيسة النجاة التي استثمرها المؤلف فان هناك أحداث اخرى معاشة وراكزة في الذاكرة الجمعية حصلت بعد عام 2003 تشير الى ما تعرض إليه المسيحيون من اضطهاد ومضايقات من خلال ما تعرضت إليه "مها" أثناء وجودها في الجامعة او في الشارع.
يمتد زمن رواية "يا مريم" على مدى يوم واحد يبدأ في الساعة السادسة والنصف وهو وقت نهوض "يوسف" من النوم الذي اعتاد عليه منذ زمن طويل وحتى قيام القداس – الدامي - في كنيسة النجاة مساء الأحد. على ان الأحداث والافعال اليومية التي كشفت عن قيام بالذهاب الى مكان ما والعودة منه او زيارة احد الاصدقاء خلال هذا اليوم كان مدخلا او محفزا لاسترجاعات لأحداث حصلت لهذه الشخصيات في زمن سبق زمن الرواية. مثل علاقة يوسف بصديقه المسلم سعدون او استذكار يوسف واسترجاعه لوضعه العائلي خاصة مع اخته الراهبة "حنه" التي كرست حياتها لإخوتها بعد وفاة الوالدين. واسترجاعات "مها" قريبة يوسف والساكنة في الطابق العلوي لبيت العائلة لحياتها الخاصة مع عائلتها وما جرى لها. . وغيرها من الاسترجاعات التي تنتهي عند هذا اليوم الذي يعد منطقة الوضع النهائي للشخصيات حتى الساعات الاخيرة منه، التي شهدت دخول مجموعة من المسلحين لتطلق الرصاص على المتواجدين في كنيسة النجاة. وتشكل هذه الاسترجاعات الخلفية الزمنية والحدثية لحياة الشخصيات الرئيسة في الرواية وهم "يوسف ومها" اللذان تناوبا الروي بضمير المتكلم.
ولعل هناك ما يبرر تعددية الروي هذه بين ضمير الشخص الثالث وضمير المتكلم، اذ يلاحظ ان اقسام الرواية التي تكفل بروايتها ضمير المتكلم "أنا" من خلال يوسف/ مها، لا يمكن ان يروى من قبل شخص ثالث لا يعلم امورا خاصة جدا وبعيدة عن الرصد الخارجي، فضلا عن ان الروي بضمير المتكلم كان ضرورة روائية للتعرف على وجهات النظر المختلفة بين الشخصيات، ومن خلال هذه التعددية في الروي امكننا ان نرصد موقفين يشكلان وجهة نظر جيلين مختلفين في الافكار والمواقف على الرغم من وجود جامع بينهما وهو انتماؤهم الى هوية دينية واحدة وهي المسيحية، ويبدو على نحو واضح ان الاختلاف بين يوسف ومها حول قضية مركزية ارادت الرواية تكريسها وهي الموقف الايجابي للجيل القديم الذي يمثله يوسف والذي وصفته مها بانه "عيش في الماضي" من مظهر التضاد الديني الذي ظهر بقوة وعلى نحو واضح بعد عام 2003. اذ كان يوسف يحاول ان يوضح لـ "مها" - ممثلة للجيل الجديد - ان هذا التضاد الديني الذي يشهدونه هذه الايام لم يكن له وجود مسبق، ومن خلال العلاقات الاجتماعية التي طرحتها الرواية تكشفت لنا العلاقات السليمة بين يوسف وصديقه الحميم المدرس المسلم محسن ومحاولات يوسف المستمرة لإلغاء الوهم الذي سيطر على "مها" واخته "حنه" من قبل وجود كراهية شديدة من قبل المسلمين للمسيحيين. واتخاذهم مظاهر عنيفة تهدد الوجود المسيحي في العراق من خلال تصرفات المجموعات المسلحة وما تعرضت إليه "مها" في الجامعة والشارع والمؤسسات الرسمية، والتي عدتها "مها" محاولات اضطهاد وانتهاك للخصوصية الدينية للمسيحيين.
لقد تمكنت رواية "يا مريم" من رصد التجاوزات والانتهاكات الحاصلة في المجتمع العراقي عبر جملة من الوقائع الحقيقية لعل اهمها الاقتحام المسلح لكنيسة النجاة التي راح ضحيتها "يوسف" وعدد من المسيحيين عبر وقائع افتراضية متخيلة مجاورة ومتهيكلة على الواقعة الحقيقية - اقتحام الكنيسة - غير مبتعدة عن قصدية الروائي سنان انطون ومراقبته لما يحصل في البنية الاجتماعية العراقية، على ان هذه الوقائع لم تخرج الرواية عن الفن الروائي وانما تم استثمارها في تقديم تقنيات روائية فتحت شهية المتلقي لمتابعة مجريات الحدث المركزي الذي كان يجري في يوم واحد فقط ومتابعة امتداداته الاسترجاعية وفق تقنية الفلاش باك عبر لغة روائية متميزة في حفاظها على الفضاء الروائي الذي تم فيه تكريس الموجه الفكري دون التشعب في امتدادات غير ضرورية. وبذلك فقد اضافت الرواية وجهة نظر جديدة الى وجهات النظر التي طرحتها الرواية العراقية لما يحصل من احتراب طائفي وديني من روائي مغترب منذ عقود من الزمان ليؤكد الاتصال الروحي والدائم بين ادب الداخل والخارج من خلال رواية إفصاحيه اقتربت من وقائع الحياة الحقيقية للعراقيين.. وابتعدت عنه بافتراضها للشخصيات وبعض الأحداث المتخيلة.