ادب وفن

"مذ كان هابيل".. والتماثل مع التاريخ / عباس باني المالكي

حين تتسع الرؤيا بقدر وجودية الإنسان وتاريخه الطويل، والتي تعبر عن أزمته الحقيقية في نواميس الحياة التي يعيشها ، يكون لهذا النص الذي كتبه الشاعر علي حمادي ناموس أبعاد تدوينية تنمو حتى تصل إلى الزمن الغائب من الإنسان ، أي ربط كل ما يحدث في تاريخ الإنسان، كأنه حالة قدرية لا تتغير بتغير النظم و حالاتها الإنسانية فهي تؤدي إلى نفس الأزمة التي يعيشها الإنسان على طول العصور. وتصبح هذه الأبعاد استجارية لأنها تكشف حالة الإنسان وقدرته على التحمل وبنفس الوقت قدرية الحياة التي تؤدي إلى إشاعة القتل.
حاول الشاعر في هذا النص أن يحدد أن كل ما يحدث الآن ما هو إلا انعكاس لكل ما جرى في التاريخ، واستطاع بحرفية المعنى أن يوصل ما أرد أن يوصله من معاناة اتسعت على قدر كبير من مساحات التاريخ لكي تبقى علامة المخاض مستمرة حيث يشكل الموت شرارة حرف في بوح مسافة أمام اشتغالها. وبهذا استطاع أن يؤشر الأزمة والتحكم بها إلى آخر فصولها حيث أوجد نصا مركبا وعميقا، واستطاع الوصول به إلى بلوغ الحالات التي تشكل أزمة الموت. وبذلك استطاع أن يمسك بغصن روحه الطري، كي يحافظ على المعنى الحقيقي لذاته وسط هذا الموت، وأن يقدم نصا شعريا متكاملا في الوجود وفي اللغة وأن يوصلنا إلى لحظة مكثفة من خلال الوصف الشعري وجعل وصفه الذي استطاع أن يغير من لغته الإخبارية، إلى لغة الدلالات وفق هاجسه المتشطي والمعنوي للفكرة التي يريد أن يوصلها إلى القارئ:
"يا ليلُ أرهقَني، قولٌ وتعليلُ، اني رَضيْتُ بها، فعلَ الاباطيلِ، اني قَبِلْتُ شروطاً ان تُقايضني، بالموتِ ارضى، وهل للموتِ تبديلُ، مما أُعاني هموماً لا انقطاعَ لها، حتى ابتلتني، سكاكينٌ وتقتيلُ، واحتاش بالجرحِ صبّارٌ فَيُخِزَهُ، ويعتصر جَرحَهُ ،والدمعُ تغسيلُ، والحالٌ امسى شَبيُهُ، الجنِ يوقظه، من مرتع ِالخوفِ، والارهابِ ترتيلُ".
ان تحقيق الاستدلال المعنوي في أي نص "يعتمد بشكل كبير على قدرة الشاعر على الإتيان بالدالة التي تؤشر المعاني التي تنمو وفق هاجسه"، لأن هذه الحالة تعطي النص بعدا عموديا وينمو بشكل انسيابي يحقق أفقية المعنى الذي يسعى الشاعر إليه، وبهذا تصبح الجمل الشعرية متجاورة وهذا ما يحقق التكثيف ، وكذلك يعطي الشاعر القدرة على استخدام الاستعارة الرمزية في كل المسميات التي تنضج أبعاده في باطنية فكرة النص، فالشاعر "علي" بدأ نصه بـ "يا ليل أرهقني" ليبين حجم الوجع الذي يعيشه وما يسبب له هذا العالم من اضطراب إلى حد جعله يرى الموت في كل شيء يحيط به، وتتحول همومه مثل السكاكين ، فكل شيء تحول الى غير المعنى الذي يجب أن يكونه ، فصار الخوف والقتل منتشر حوله بسبب ما يحدث من إرهاب، وأصبح هذا الإرهاب كأنه نغمة وتراتيل يومية يجب عليه أن يعيشها ويسمعها ، ولا يستطيع أن يهرب منها، فالشاعر لا يفكر بهمومه إلا بقدر هموم المجتمع وما ذاته إلا هي استدلال لذوات الآخرين ، ويستمر في طرح ما يحدث في الوطن من هموم التهجير والقتل المجاني ، وما يحدث في خيام التهجير من برد وجوع .
"البردُ يقتلُ والامطارُ تأخذنا، حتى الخيامِ نأتْ، أين البهاليلُ؟ أين الذين اذا، للموتِ صاحَ فتىً، هَبْوا خِفافاً، لنسجِ الموتِ أكليل، أم هل لِحاجتِنا والجوع يأكلنا، قولٌ يُفلسفُ، اعذار وتحليل".
يعيش الشاعر التماثل النفسي مع كل الأحداث التي يراها ، لكي يبين عمق تأثيرها في ذوات الناس الآخرين ، وما يحدث من تبرير للسبي هو دفاع عن تلك العادات السيئة التي كانت تعد مفخرة بين القبائل ، لم يعد هناك تغير في عاداتنا, ما نحن إلا انعكاس لتلك العادات التي عاشها أجدادنا، فالجهل مستمر فينا، لأننا لم نتخل عن ما كان يعيشه الأجداد ، وسوف تستمر حياتنا بمنطقهم وعادتهم ، فالتاريخ لم يغير أي شيء فينا، بل نحن مرآة الماضي التام ، وكل شيء يتحرك الآن وفق استمرار حركة ماضينا، ونحن لا نختلف عنهم بشيء من عادات جز الرؤوس وسبي النساء لأننا أمة لا تتغير، فمنذ قابيل ونحن ندمن القتل وجزء الرؤوس،
"مُفاخَرةُ التاريخِ يا بلدي، في ما مضى كُلُها، كذبٌ وتضليلُ، ألم نفاخر بعضاً اننا نفرٌ، جَزّ الرؤوسِ لنا، فخراً وتبجيل، سبيَ النساءِ كراماتٌ تعد لنا، نهبٌ وسلبٌ، واجدادٌ دلاديل"
والذي يميز نصوص الشاعر أنه يجعل من ذاته مساحة لكل الذوات الإنسانية ، لكي يبني النص حسب توتره الشعوري المدرك لكل ما يراه ، وهذا يعطيه مساحة واسعة من جعل رموزه تحمل ثقل رموز الخارج، ويعيد صياغتها حسب التوهج الذاتي في صياغة الجمل الشعرية المقاربة لكل ما يراه حوله، ثم يحول كل الأحداث الخارجية إلى رموز حية تجعل قصائده تنمو وفق هذه الأحاسيس من أجل أن يعيد تموضعها ضمن تصوره الإدراكي المقارب لرموز الخارج ، بعد أن يضفي عليها هاجسه الوجداني المفعم بالحياة المؤثر على القارئ.