ادب وفن

إسماعيل سكران في روايته الثانية "هزار" .. الورد صوتا وشخصية محورية / مقداد مسعود

ضمن ما يتماوج في البنية الاجتماعية العراقية فإن "هزار" جهويا تتمة لرواية "جثث بلا أسماء" لكنها ليس بالتتمة التقليدية المألوفة.. والمسافة الزمنية للرواية هي ما بعد ربيع 2003 حتى راهننا المتردي.
*
قراءتي تنتخب لإنتاجها ما يوائم مشروعها الصوتي في الرواية العراقية – العربية. وأعني بذلك "الصوت" كشخصية محورية ومخطوطة الكتاب قيد الطبع...
*
الصوت هو ماء العائلة.. كما هي الحال لدى زاهرة "تحتسي حتى يتهاوى جسدها، بعد أن ترتوي من سماع اغنية عمي يا بياع الورد/ 111".. فهذه الأغنية "تمثل تراث العائلة المتبقي". إذن هذه الأغنية أرث العائلة وتراثها وذاكرتها الجمعية ولحظتها المتجددة الاحتفائية بالوجود والموجود، الصوت هو الحصن يلوذون به والأغنية هي احتفاء العائلة بالوجود.. وستكون الأغنية ذاتها نوعا من إعادة الوعي لزاهر من خلال شقيقته زاهرة في خاتمة الرواية.. "ستكون، عمي يا بياع الورد، هي كلمة السر التي ستعيد لم شمل العائلة بعد أن كانت سببا في تمزيقها قبل عقود، ستذكره بها وبأسرار العائلة التي لا يعرفها سواهما".. و"مؤثرية الصوت كانت حادة / دامية كما هو الحال مع زغلول عبد الحميد شقيق زاهر".
*
في بداية الرواية يعلن السارد عن سلطة غواية السرد :"كانت تفكر إنها جزء من فوضى المكان، أغانيها تشتت أجساد الحضور الذين يفقدون صوابهم بسرعة". عن أي فوضى يخبرنا السارد العليم..؟!
ان الصوت هنا جزء لا يتجزأ من الكتلة الداخلية التي ملأت فراغا في فضاء مغلق
* الكؤوس المبعثرة فوق الموائد،
* صحون المقبلات والأطعمة
* الكراسي المسحوبة من أماكنها بلا انتظام.
ثم يأتي صوت هزار ليتم العثرة/ التشتت. وهناك صخب الموسيقى الذي يضيف ضيقا في المكان المغلق المغمور المضبب بدخانات شتى.. "هوس الحياة في هذا المكان الذي يضج بصخب الموسيقى كل ليلة".. لكن صوتها ليس فوضى محض.. بل هي حاضرة اجتماعيا واقتصاديا من خلال صوتها.. فهي لم تنقطع عن الغناء في ملهى "التاج"..
* "لقد أدمنت الغناء ومعاشرة الناس هناك ثمة جمهور يحبها، يحضر لأجلها ينثر النقود فوق رأسها تبجيلا لإطلالتها ولصوتها".
* "ومن خلال جماليات هذا الصوت: تعتاش عشرات العوائل العاملة في الملهى، لديهم أفواه بحاجة إلى طعام واجساد بحاجة الى كسوة ".
"هزار" كائن مشطور بين صوت ونظر. . فهي حين تستيقظ كل يوم من ظهيرتها المخمورة، تكون تحت هيمنة مثنوية الرؤية: الخاصة – الجوانية/ العامة – البرانية نلتقط الرؤية الأولى. . "نظرت الى جسدها الأبيض الطري واستدارت وكأنها تستعرض جسدها وتراه لأول مرة". ومن بؤرة المكان الجواني أعني غرفة نومها الصغيرة الواقعة في الطابق العلوي.. سوف تبث مرسلاتها الغرامية الخاصة.. وهناك ستبدأ الرؤية البرانية: "تجلس هناك في غرفتها العلوية لبعض الوقت، تزيح ستائر نافذتها لتحظي برؤية أفضل لتتمكن من إرسال إشاراتها الغرامية باتجاه نافذة تقابل نافذتها تعلوها رقعة ضوئية كبيرة خط عليها "شركة الأمل للصيرفة"..
والرؤية البرانية مثنوية بدورها.. كأننا أمام شاشة سينما مشطورة بلقطتين:
لقطة مثبتة على شركة الصيرفة ----- لقطة غسيل الزوجات
سيكون بصرها باتجاه "أسطح البنايات المواجهة لها فترى نفس اللوحة الفوتوغرافية اليومية، حيث ترى بعض النسوة وهن ينشرن غسيل بيوتهن فينتابها شعور بالأسى والحسد". وحين تكون في الملهى قبيل الدوام، ستسرح بأفكارها بعيدا عن هوس الحياة في هذا المكان نحو.. "دفء الحياة العائلية في بيتهم القديم القريب من مجرى نهر دجلة، تحن إلى نافذة غرفتها وإلى زميلاتها ورفيقاتها ودرب العودة من المدرسة وطيش المراهقة". فهل كانت هزار "تنشط ذاكرتها كل يوم بتذكر أدق تفاصيل حياتها هناك، خشية أن تنساها"؟ بشهادة السارد العليم.. هل هو تنشيط ذاكراتي؟ أم هزار مصابة بمرض تثبيتات السعادة – حسب غاستون باشلار؟
الأغنية تصطاد الماضي الشخصي بالنسبة لزاهرة فتستعيد لحظة عائلية خاصة. . "ذات مساء بكت زاهرة، لم يدر بخلدها انها ستسمع ذات يوم أغنية عمي يا بياع الورد، فقد ابتدأت الاغنية بتوزيع موسيقي جديد أداها أحد المطربين الشباب في الملهى باسلوب غنائي حديث حافظ على جوهر اللحن والنص". الصوت من خلال الأغنية سيفتح شاشة ذاكرة زاهرة ويعرض لقطة عائلية آفلة ولاوجود لها إلا في الزمن النفسي المأسور لديها. . "تلك اللحظة قفزت أمها بثوبها الأحمر اللماع وجسدها الغجري النحيل وهي تتلوى أمام أنظار الزبائن، ورأت والدها بدشداشته البيضاء وهو يصب كأسه متأملا جسد زوجته الغجرية وهي ترقص"..
هذه الأغنية ستشيد جسرا من الورد بين زاهرة والمطرب وستكون الأغنية مسك ختام وصلته الليلية وهكذا. . "أصبحا مقربين جمعتهما اكثر أغان التراث قربا الى قلبها"..
خلافا لذلك سيكون تأثير الأغنية نفسها على شقيقها زاهر.. "لم تثر تلك الأغنية مشاعر زاهر الذي كان برفقة زبائن أودعوا في شركته مبالغ مالية كانت تلك الأغنية بالنسبة إليه جزء من تراث عائلي مندثر يسمعها دون أن تلفت انتباهه انه يعيش حاضره وحسب". وستحاول زاهرة مرة أخرى وتستعمل أغنية "عمي يا بياع الورد" كجهاز انعكاس شرطي توجهه نحو زاهر، وستخيب نظرة زاهرة المسددة نحو شقيقها. . "لم تر زاهرة أي استجابة تذكر". وستبذل زاهرة جهدها مضاعفا في هذا المجال.. "احتفظت بقوة ملاحظتها لتعينها على اكتشاف الظروف التي جعلت من زاهر بارداً ازاء حدث، لم يزل يحتفظ برمزيته كعنصر مدمر لعائلتها، لم تكن تصدق ان حدثا داميا كهذا قد يطويه النسيان، مالم تكن معاناة زاهر الحالية أشد وأمضى من ذكرياته".
لكن الأغنية ذاتها هي الشبكة التي ألقتها هزار بعفوية واصطادت زاهرا في بداية السرد.. "توقف زاهر تلك الليلة بعد أن سمع صوت أغنية عراقية يحبها يتسلل من بوابة ذلك الملهى نحو الشارع". وستقوم الأغنية والمغنية بانزياح كبير في حياة زاهر "نظر باتجاه مدخل التاج، وكانت تلك هي اللحظة الزمنية الفاصلة في حياة زاهر". وأنوثة الصوت لا تكتفي بمؤثرية الأغنية، فهي تتغاوى بإنشاد المنادى :"بهرته بحركتها تلك فقد خصته بها وحده، لقد ذكرت اسمه، أحس بالدور، سألته عن اسمه فأجابها". زاهر ليس غريبا على علب الليل وطقوسها، لكن بمؤثرية نطقها لاسمه "اكتشف انه كان منفيا في جزيرة بعيدة وانه الآن يبحر صوت العالم الحقيقي، لقد كررت اسمه مرتين أثناء غنائها فأحس بالانتشاء"..
تستعيد الحياة طبيعتها الغنائية الأولى بطبعة منقحة ومزيدة في حياة أزهر وهزار.. وتصبح المرأة المغنية ذات سيادة مطلقة ويكتفي أزهر بدور ثانوي متمم لها في الاعراس والحفلات.
ـــــــــــــــــــــــ
* الورقة المشاركة في الجلسة التي أقامها ملتقى جيكور الثقافي في 28 شباط 2017 للقاص والروائي إسماعيل سكران.