ادب وفن

القاص جمال نوري.. بين شد الأحداث وتكثيف اللغة / وجدان عبد العزيز

لا شك ان القاص جمال نوري له تجربة ناضجة في مجال القصة القصيرة استمرت عدة عقود، وكان كاتبا وفيا لعوالم القصة الاسلوبية والمضمونية، فله عدة مجاميع قصصية رسخت بصمته الخاصة... واليوم نطالعه في قصة "شمس خلف الغيوم" المنشورة في جريدة طريق الشعب العدد 128 في 19/2/2017، حاول فيها الكاتب التلاعب بالزمن من خلال الاستهلال، رغم إن الزمان والمكان يعملان معاً ويؤديان وظيفة ديناميكية كوحدة متصلة في القصة، لكن كلمات الاستهلال دلت على ان هناك شخصية محاصرة بالأمنيات المؤجلة ومحاصرة بجدران غرفة ضيقة .. يقول الراوي :"هناك في زنزانة صغيرة"، وظلت هذه الشخصية تعيش ضنك الجدران وضيق المكان في صراع قلق، تحاول ان تتعايش مع المكان ومع الخوف، فهذه الزنزانة اي الغرفة الصغيرة، عرفت الشخصية جدرانها وعاشت عالمها الضيق، إلا انها بقيت تحاول العتق من ربقة هذه الجدران الى الفضاء المفتوح والأمنيات المؤجلة.. الشخصية في الزنزانة لرجل معتقل، يقول الراوي :"ايقظته زقزقة العصافير الصادرة في الفضاء المجاور، او تلك التي تتزاحم الان على الاغصان، ادرك بمجساته الصوتية ان الاشجار لم تكن تبعد كثيرا عن زنزانته، التي بدا سقفها عاليا جدا، ثمة نافذة صغيرة تسرب هلالاً من الضوء ينبجس من تحت مفرغة الهواء الصغيرة، التي استمرت في حركتها الدائبة مصدرة صوتا رتيبا جارحا .. لم تكن المرأة اللابدة خلف النافذة، تحلم بيوم لقائه، كانت تحاول ان تشاركه محنته"..
اذن النافذة والمرأة شكلا علامة من علامات الفضاء المفتوح له، ثم هناك تدخل القاص جمال نوري في انفعالات البطل وهواجسه الشخصية، وحاول الكشف عن خباياها .. يقول البرتومورافيا:"نحن لا نهتم بتلك الموضوعة التي تنتج مجموعات مصنعة من النماذج والشخصيات، ولكننا نهتم بالطاقة الشعرية الخالصة، التي تجسد آمال الانسان ومخاوفه وتمرداته وحبه بشكل انساني عن طريق توضيح طبيعة الانسان، وذلك بتقسيمه الى نماذج واعادة اظهارها في شخص واحد او مئات الاشخاص". وهذا يعكس حرص القاص في التدخلات لترجمة افكار بطل قصته، كي يظهر للمتلقي تبريراته لاتخاذ هذه الشخصية وتحميلها ميزات معينة، تحمل المبدئية والاهداف السامية الموضوعية هذا جانب، اما الجانب الاخر انها لا تنفك ان تنحاز الى نفسها وتترجم ارهاصاتها الذاتية، يقول نيجار عطا الله:"إن البحث عن المعنى هو رحلة عبر الزمان في جميع أنحاء العالم، لكنها تنتهي بنا دوما عند أنفسنا. فكل الطرق تعود بنا مرة أخرى إلى أنفسنا. وفي مقدمة ابن خلدون، التي جال فيها عبر الزمن، يصل هذا الفيلسوف الصوفي إلى نتيجة مفادها أن تطور الحضارات واندثارها هو ظاهرة دورية. فإن البشر، سواء كانوا مؤمنين أو ملحدين، مثاليين أو عقلانيين، فلاسفة أو علماء، كلهم على الطريق الذي أسماه ابن القيم مدارج السالكين، وهو طريق يعود بنا في نهاية المطاف إلى أنفسنا".
المحصلة ان القاص اظهر معالم شخصية قصة "شمس خلف الغيوم" بكل انفعالاتها، راسما تساؤلاتها امام المتلقي ـ لماذا لا نغادر مثل الاخرين؟، لكن بيت القصيد في جواب الشخصية نفسها .. "أنا لا استطيع مغادرة جذوري".. ورغم ان البطل مسجون في زنزانة ضيقة، الا انه بقي في سمو نحو مساحة الضوء، يتطلع الى العتق، وهكذا تبقى القصة القصيرة عند القاص جمال نوري مساحة نثرية ينقل من خلالها مواقفه تجاه الحياة والعلاقات الانسانية، فالقصة القصيرة هي نوع أدبي، وهي عبارة عن سرد حكائي نثري أقصر من الرواية، وتهدف إلى تقديم حدث وحيد غالبا ضمن مدة زمنية قصيرة ومكان محدود، لتعبر عن موقف أو جانب من جوانب الحياة، حيث عرفها الأستاذ فؤاد قنديل بأنها "نص أدبي نثري يصور موقفا أو شعورا إنسانيا تصويرا مكثفا له مغزى"، اما عند آرسكين كالدويل فهي "حكاية خيالية لها معنى، ممتعة بحيث تجذب انتباه القارئ، وعميقة بحيث تعبر عن الطبيعة البشرية"، وتعرفها كاترين آن بورتر بأنها "العمل الذي يقدم فكرة في المقام الأول، ثم معلومة ما عن الطبيعة البشرية، بحس عميق"، وتتميز كل قصة عن الاخرى بقدرة كاتبها ومحاولة التحكم ومدى التوفيق بقيادة الخيط الزمني الدقيق وربطه بخيط المكان في النسيج الداخلي "البناء"، وشد جميع الخيوط الزمكانية المتلونة بشعور القاص نحو الخاتمة بالتخليق لأشخاص وأحداث تنبض بالحياة، لتتشكل في النهاية من خلال القصة لوحة ذهنية رائعة، وهذا ما قام به القاص في شد الاحداث وتكثيف اللغة للوصول الى المعنى، الذي شاركه اياه المتلقي.