ادب وفن

روح الشهيد تتماهى مع "نخلة الروح" / عبد العزيز لازم

"نخلة الروح" هو عنوان لمجموعة شعرية طرحها الشاعر فراس عبد المجيد وهو عنوان لقصيدة متوسطة الحجم ضمها الديوان، اما قصيدة "الشهيد" فقد ظهرت في الجزء الثاني من الديوان الذي اكتسب عنوان "أل التعريف"، لكنها ظهرت في مساحة المعاني الكبرى كإشعاع باهر يضم هموما ملحمية مبثاثة. ويتعين ان نلاحظ ان المجموعة قد تم تكوينها تراكميا اي ان الشاعر كان أطلق جهده الشعري في فترات زمنية متباعدة. لكن ذلك لم يؤثر على وحدة المواضيع التي اشتغلت عليه القصائد، فالشاعر يمتلك وحدة وجدانية الى جانب الانسجام الفكري الذي غطى المحتوى والشكل الفني الذي خرجت به القصائد. وقد حاول الشاعر بحذق واضح التهيئة لتعريفنا بأجواء "الشهيد" ومشكلاتها الحسية. فاستخدم قصيدة ومضة قصيرة عالية الصدمة لتحقيق ذلك. إنها ذات رمز مدهش. بعنوان "الجبل" وهو عنوان ينتمي الى مجموعة "أل التعريف" كما ينتمي اليها عنوان "الشهيد:"يا لهذا الجبل!/ كلما داهمته السيول /استطالْ /كلما فاجَئتْه الثلوجُ /اشتعل ْ!" فلنلاحظ ان الشاعر يمعن في تثبيت حالة التعجب بالاتكاء على علامتي التعجب في بداية القصيدة في المفردة المتصدرة "الجبل!" والمفردة النهائية "اشتعل!"، كذلك ساعدت حركة السكون في الأقفال الإستهلالية والوسطية والنهائية على إطلاق لحن يؤسس لليقين اللفظي والمضموني. تباشر "الجبل" شغلها اللفظي بصياغة عبارة العجب لخلق الجوانب الدرامية في اجواء القصيدة، وتواصل حالة التعجب بناء نفسها حتى بلوغ الذروة في مفردة "اشتعلْ" الساكنة لتبقي حالة الإشتعال تتغذى من ثيمة العجب المتصاعدة منفلتة من قلب هذا الجبل وبذلك لم يعد الجبل جبلا بل يتحول الى رمز بشري أكثر شمولا من ذلك وهو ينطبق على قوة عليا لازالت تعمل على الأرض هي القوة الثورية التي ينتمي اليها الشهيد. إنها القضية الكبرى المستمرة في الإشتعال وهي مجموعة العمل الثوري التي تسخن طموح الإنسان من أجل التغيير وبناء الحياة، وهي ذات القوة التي خرج منها الشهيد " القصيدة التالية " لكي يحث الخطى نحو حتفه مختارا بدفع قضية الناس الكبرى التي اطلقها الجبل " الحزب الثوري". لكن الشهيد استوعب المسألة التي حملها الجبل وذهب الى هناك كي يشيع الرعب في قلوب الجلادين عبر تضحيته التاريخية. وليزأر في وجوههم " سنمضي الى ما نريد. ." ولن تقف السيول ولا الثلوج او النيران أو السياط في طريقنا.. إنه يستطيل ويشتعل ويواصل شغله الأكبر في خدمة قضية اكبر.
وبعد ان يستنفذ ما تتحمله قصيدة الومضة المدهشة يدخلنا الشاعر في محيط قصيدة "الشهيد" التي تحمل موضوعا رئيسا في المجموعة مفتتحا مع بداية تصنف ضمن ألحان المراثي:"ليته قال لي/ إنه راحل في اتجاه الأفولْ". لقد وجدت هذه القصيدة جذرها الدافىء في الموروث الشعبي التليد للإدلاء بمكنونها الوجداني وإطلاق ما لديها لبناء محمولات الكيان العاطفي التاريخي للناس. تتكرر مفردة "ليت" مرتين وتصبح "ليته" في الفصل الأخير لتكريس عنصر التمني الحزينة لدى المتكلم، ولا يكتفي الشاعر بتسخير هذه المفردة لرسم صورة الحزن اليائس بل يواصل التصعيد الدرامي بمزيد من الكشف عن تضاريس رحلة الشهيد :
ليت أن الفصولْ
غيرت في مواسمها
كي أرى بوحهُ
شاحبا في المطرْ
كي تظلْ ابتسامتهُ
في اخضرار الشجرْ..
تتنفس القصيدة مرة أخرى بما يشبه الشهيق بعد ان رصَّعت فصلها الدامي بمفردات من الطبيعة للتناغم بدواعي الحزن على الشهيد مقرونا بغياب الأُمنية المستحيلة في رؤية محياه ولو كان شاحبا، فهو يتمنى على الفصول ان تقدم عونها الى المحب لتمكينه من رؤية الشهيد الذي غيَّبه "ألأفول" بتغيير قوانينها مؤقتا كي يتمكن من ذلك. لنلاحظ ان هناك محاولة حاذقة لتحويل المعنوي الى تجسيد مادي، فمفردة "بوحه" لا تمتلك وجودا ماديا يمكن رؤيته إلا " شاحبافي ْالمطرْ" ولا "تظل ابتسامته" قائمة إلا "في اخضرار الشجر". فيتكون كيان البوح الجميل من مادتي المطر والشجر وهما مادتان تحملان حجما هائلا من الرمزية فضلا عن العلاقة المتينة مع البشر.
يخصص الشاعر القسم الختامي لكشف جديد يتعلق بالشهيد وهو حالة الحلول. والحلول بالأساس ثيمة صوفية تعني ان المتصوف الوجداني " يحل " في روح الروح العليا فيصيح هو مثلها اي يكتسب صفاتها، يعود الى "ليته قال لي " فبعد ان جيَّر اداة التمنى الثانية لمخاطبة الطبيعة، يعود الى الشهيد ليربطه بالأداة لفتح سفوح جديدة من الحراك الوجداني:
ليته قال لي
كي أرى وهجه في الذبولْ
كي ارى كشفه في الحجبْ
كي أرى ستره
في الحلول..
ترى القصيدة ان الشهيد انتقل الى وضع جديد فيه الكثير من التكريم وسمو المكانة وهو الارتقاء الى مصاف القديسين. فهؤلاء وحدهم من يستطيع ان يشغل مكانة الروح العليا وهو ما يطلق عليه المتصوفون بالحلول.
قصيدة "نخلة الروح" التي حملت عنوان المجموعة تواصل عرض مأساتها التي هي شديدة الارتباط بمأساة الشهيد، لكنها محملة بالرموز الخلابة، فالنخلة رمز عراقي بامتياز وقد ارتبطت بالمخيلة الشعبية بالشكل والوظيفة. كما انها باعتبارها كيانا جغرافيا تاريخيا جمعت بين الجمال والوظيفة المعيشية وبذلك نالت النخلة العراقية إعجاب وحب كل من الفقراء والأغنياء والفئات الأخرى مجتمعة محققة وحدة وجدانية بين عموم الناس. لذلك لا يستطيع اي عراقي أن ينسى شكل النخلة ومعناها وسحرها في روحه وخياله. العمل هو قصيدة نثر لكن حميمية البناء اللفظي تجعل النص يتفجر الحانا دونما حاجة الى خارطة تفعيلة، بل إن الجهد اللحني يتولد من شفافية الرمز المعبأ بالمعاني الكبرى:
وحدكِ الآن
تسمقين كرمحٍ
في خاصرة السماءْ.
كل الأزمنة هباء
ويومك التاريخ كله..
لو جاز لنا تجاوز جنس الخطاب الشعري بصيغة المؤنث الى صيغة المذكر لأصبح في إمكاننا أن نواجه مخاطَباً بحجم الوطن وهو يعادل الأرض التي ربما قصد الشاعر مخاطبتها. يلتحف الوطن بستار الرمز الشعري فالأوصاف التي تطلقها القصيدة على هذا الرمز تحلق من محدودية الذاتي الى رحاب العام الواسعة خاصة في اشارته الى الزمن العراقي الذي يعادل التاريخ البشري بأسره "ويومك التاريخ كله.." ليس من ناحية القِدَم فحسب بل ومن ناحية الثِقَل الحضاري وهي ثيمة تناسب تاريخ وادي الرافدين المديد منذ حضور الاقوام التي شكّلت بنيته الاجتماعية الحالية. ويمعن الشاعر في تعريفنا على هوية أرض الوطن بعد المقدمة بشكل غوص عميق تلمسا للروح الداخلية للرمز:
اندستْ في دفء لحائكِ
أفاعي الفردوس..
التفّتْ على جذعكِ
فاستحال سمُّها :
شهداً للأبدية
و دماءً للقرابين
وخمراً لكهنة العشقْ
يضعنا الشاعر أمام التباس جديد سنحاول الدخول في قلبه كي نستقرئ المدلولات الممكنة التي يصدرها القلب فنحن امام افاعي تمتلك وسيلة دفاعها وهجومها وهو السم الذي قد يكون قاتلا. سنفترض إن تغلغل الافاعي في لحاء النخلة "الأرض" يعني قتلها في جوهرها أو إلحاق الأذى بوجودها، لكن تلك النخلة ذات الثمر اللذيذ والكينونة القوية الدافئة استطاعت على الدوام احتواء الأفاعي وسمومها القاتلة بتحويلها الى شهد للناس المعاصرين منهم والآتين ايضا وهذه من سجايا الأرض النبيلة الخصبة. يمكننا ان نفكر بالأفاعي كمعادل للغزاة من الاقوام الاخرى الذين جاءوا بغرض الاحتلال والاستحواذ على الخيرات التي لا حصر لها في ارض وادي الرافدين. لكن هذه الأرض استطاعت تحويل السموم الى شراب حلو المذاق لسكان الوادي، اي ان المبادرة الحضارية التي نمت وتسامقت في ارض العراق قد تكونت بمساهمة جميع الاقوام الذين جاءوا كغزاة لكنهم لم يعودوا الى ديارهم بعد انتهاء فترة الغزو والاحتلال لأنهم اصطبغوا بصبغة العراق واقرب مثال على ذلك الغزو المغولي الى بغداد التي دمروها تدميرا شديدا واقاموا تلولا من جماجم أهلها، لكن بغداد قامت بغزوهم على الصعيد الروحي غزوا مضادا بأن سلبت افكارهم وعقائدهم وتحولوا الى ديانة اهلها. وهذا نوع من الاحتواء التاريخي الذي دأبت ارض العراق على تحقيقه ازاء الأقوام التي جاءت بغرض الغزو او بهدف الاستقرار والعيش من خيراتها. بهذا تكون كيان نفسي داخل نفوس السكان يدين بالولاء لأرض الوطن خاصة الطليعة الثورية المخلصة التي تقدم اغلى ما لديها من أجلها. وهذا هو نوع الغناء الذي يصدح به الشهيد وهو الذي يخلق القوة الساعية الى التغيير الإيجابي. يعزز الشاعر في هذه القصيدة تلك العلاقة الطبيعية التي سخَّنتْها الوقائع التاريخية بنوع من المناجاة الروحية مع الأرض لتعميق روح الانتماء بين المناضل والأرض فيطالبها:
فانهمري انهمري مع المطر :
شفاهاً لا تمل الصمتَ
ولا الابتسام
ولا القُبل
وسدّي عليَّ بوابات الرحيل
وبعثري حقائب النفي المتلاحق
وتكسري بروقاً لا تنطفئ
ثمَّ
.. انفيني فيك
يأتي انهمار الرمز متزامنا مع انهمار المطر، ونستطيع ان نعرّف الانهمار الاول بمعنى الحماية التي يمكن ان يقدمها الوطن للمواطن المضطهد وتخليصه من مسببات الظلم الذي قد يتعرض له ويجبره على الهجرة خارج حدود الوطن. ويطرح النفي كنقيض لحضن الوطن. لكنه يكتسب معنى جديدا معبأ بالجمال اذا تحول الى نفيٍ مضاد باتجاه الوطن، فهو الحضن الحبيب الذي من أجله يتخلى الشهيد عن أغلى ما لديه وهو حياته.