ادب وفن

انطباعية البناء السردي في رواية "فندق كويستيان" / أحمد عواد الخزاعي

الواقعية الانطباعية هي مدرسة فنية ظهرت في أوروبا قبل أكثر من قرن ونصف من الزمان، بعد انزواء الحركة الرومانسية الفنية، لتكون محطتها الأولى الفن التشكيلي بكافة فروعه، ومن ثم زحفت إلى جميع الفنون الأخرى ومنها السرد.. ويمكن تعريف الواقعية الانطباعية، بأنها اتجاه يعني بنقل الواقع بكل تفاصيله الجزئية والدقيقة، حتى حركات الشخوص داخل النص، وتجعل القارئ في حالة من التعايش مع الاحداث بواقعية هي اقرب إلى الحقيقة.. ويمكن اعتبار رواية "فندق كويستيان" للروائي خضير فليح الزيدي ضمن هذا السياق السردي. . حيث نجد حضور التفاصيل الدقيقة وانزياحاتها داخل متن الرواية "الأمكنة، الأسماء، المهن وتفاصيلها، الوصف الدقيق، الإسهاب في سرد الأحداث" مما أكسب النص واقعية مفرطة، جعلت منه وثيقة تاريخية شاهدة على حجم الدمار الذي حصل في العراق إبان الحرب الطائفية بين عامي "2006-2007" التي أطاحت بالسلم الأهلي العراقي الممتد لقرون طويلة، وأحدثت شرخا اجتماعيا ما زالت أثاره ماثله حتى الآن، وعالقة في الذاكرة الجمعية للمجتمع العراقي.
تبدأ الرواية بخطوة جريئة وخطيرة لكنها مبررة للمغترب العراقي في ألمانيا "ناصر الكردي"، حين يقرر العودة إلى العراق أثناء الحرب الطائفية عام 2007، بعدما غادره هاربا من الخدمة العسكرية، ومن مشاهد الجثث المكدسة، ورائحة التفاح المتعفن التي تصدر عنها، كما عبر عنها، في مركز تسليم جثث القتلى في البصرة الذي كان يخدم فيه، إبان الحرب العراقية الايرانية. . هذا المدخل الكبير والواضح المعالم للرواية، شكل عتبة سردية استشرافية للقارئ، قد تمكنه من معرفة ما سيحدث للبطل في رحلته الخطيرة إلى وطنه الأم، وهو يبحث عن حبيبته المفترضة "رباب"، ومخطوطته التي فقدت من جراء الانفجار الإرهابي الكبير الذي طال شارع المتنبي في تلك الفترة، استخدم الروائي أسلوب الراوي الضمني "السارد الداخلي"، وتقنية تعدد الأصوات داخل النص، فقد تناوب على سرد الأحداث شخصيتان رئيستان موازيتان للأحداث، هما "ناصر الكردي" وصديقه البطل الظل "علي عبد الهادي" فنقلا أجواء الرواية وأحداثها برؤية ناضجة، تنم عن وعي وثقافة عاليين، بعد ان مهد لهما الروائي هذا الامر، بجعلهما شخصيتين مثقفتين، ناصر الكردي كان كاتبا، وصديقه علي عبد الهادي يساريا قديما، ليحافظ النص على سياقه ونمطيته دون إحداث إرباك أو تذبذب في الأسلوب أو لغة السرد، مستخدما لغة سهلة مطواعة، لكنها مشبعة بالألفاظ التي هي عبارة عن خليط متجانس بين اللهجة العامية والفصحى، تحمل دوال وصفية دقيقة التفاصيل، مثل حديث سائق الريم حمدان مع ناصر الكردي.. "كنت ارتعش مثل كلب الدشبول هذا".. إضافة إلى انتهاجه تكرار العبارات والمفردات في أكثر من موضع داخل النص، وعلى ألسنة عدة أشخاص. . ولا نعلم هل هو خطأ وقع فيه الروائي، أم انه أسلوب حداثوي وتقنية لجأ اليها الروائي لإحداث نوع من التناص الفكري واللغوي، بين أبطاله، يشير من خلاله إلى نمطية حياتية ألفها العراقيون نتيجة الكم الهائل من الماسي التي عاشوها في ظل الحروب والأزمات، كعبارة "حضن الجمرة" التي تكررت على لسان ناصر الكردي ونزيل غرفة "305" في فندق كويستيان، وعبارة "رائحة التفاح المتعفن" التي كررها ناصر الكردي وصديقه علي عبد الهادي، وتشبيه بغداد بثور حلبة المصارعة الجريح. . إضافة إلى وجود حالة من الاستغراق في الوصف وتكراره في أكثر من موضع داخل النص، مستخدما مفردات مختلفة في كل مرة، مثل وصفه مشهد حافة الهور وهو ينظر إليه من نافذة الباص "الريم" على اطراف البصرة، وتكرار وصفه نزيل فندق كويستيان الكثير السعال، والإسهاب في تدوير الذاكرة الشخصية لناصر الكردي واستخدام تقنية الارتداد، واستذكاره ووصفه مركز تسليم القتلى إبان خدمته العسكرية في الحرب العراقية الإيرانية، ويستمر التكرار في سرد الأحداث والوصف، وذكر السير الذاتية لبعض أبطال الرواية طيلة سياق السرد، ويبدو إن الروائي كان يبتغي من وراء ذلك التأكيد على فكرته، وإبراز العناصر الحيوية والفعالة منها، إلا إن هذا التكرار لم يربك النص ولم يؤثر على بنائه الهرمي سلبا بصورة كبيرة او ملحوظة، لان النص حافظ على حيويته حتى الخاتمة، من خلال معالجات سردية، تمثلت في زج شخصيات ثانوية عدة في سياقه، شكلت جزءا مهما من انطباعية البناء السردي للرواية، مثل "قصة حمدان سائق الريم ومساعده علاوي، قصة همام المراسل، قصة نزيل فندق كويستيان، قصة محمد عساف، قصة كريم حنش، قصة عباس زروقة".. وغيرهم الكثير الذين شكلت قصصهم رافدا ماديا وحسيا لإيضاح الثيمة الرئيسة التي كتب من اجلها النص. . إضافة إلى وجود الميتاسرد داخل متن النص كقصة ضمنية عبر رواية كتبها ناصر الكردي أثناء خدمته العسكرية والتي اسماها "حديث الريم" وتحكي قصته مع امراءة أحبها من طرف واحد اسمها رباب، شاركته مقعده في باص الريم أثناء بحثها عن زوجها المفقود في الحرب العراقية الإيرانية.
تستمر رحلة ناصر الكردي في بغداد بعد عودته من المانيا، منطلقا من فندق كويستيان في منطقة البتاويين، الذي حل نزيلا فيه، فيجد مخطوطة روايته ويودعها عند كريم حنش لمراجعتها وطباعتها، بينما يستمر هو في بحثه عن حبيبته المفترضة رباب، ليقوده بحثه المضني هذا إلى مقتله على أيدي الجماعات المسلحة بالقرب من منزلها، قبل ان يتم لقاؤه معها.. وهنا أود الإشارة إلى ابرز محطات رواية كويستيان لخضير فليح الزيدي:
1- رواية "حديث الريم" ميتا سرد شكلت رافدا مهما للمتن الأصلي للنص، غني بالدوال الفكرية والنفسية، وشهادة تاريخية لمرحلة الحرب العراقية الإيرانية.. اضافة الى وجود الوثائق والخرائط داخل متن النص.
2- الاستلاب والغربة التي عاشها العراقيون خارج الوطن.. حيث شكلت عودة ناصر الكردي حالة من الانجذاب الفطري اللاإرادي لنشأة الطفولة الأولى للحظة البدء، بغض النظر عن ماهيتها ووطأتها عليه.. "تقلني الطائرة سابحة في السماء لتعيدني نحو البقعة الأولى، يقودني جنوني إلى مسقط الرأس".
3- الحزن المستوطن في قرارة أنفس العراقيين، انعكس على سلوكهم وتعاطيهم مع الحياة، لذا نجد بطل الرواية مصابا بالكآبة الحادة، نقل على إثرها من ورشة تصنيع الكراسي المرحة إلى ورشة صناعة التوابيت. . "انت لا تملك روح الفكاهة، تصاميمك كلها تحمل روح الكآبة".. هذا الحزن اجبره على بث الحياة والأمل في ذاكرته، واستحضاره قصة حب وهمية عاشها من جانب واحد قبل عشرين عاما، ومخطوطة كتبها في غفلة من الزمن، ليجعلهما عكازه الذي يستند إليه في قراره العودة الى الوطن مرة أخرى.. فتحولت رباب إلى ضوء مصباح في عتمة غربته القسرية، تهاوت على مشارفه أجنحته واحترقت، لتخلف وراءها حلما كاد أن يتحقق على ارض تموت الأحلام فيها قبل ان تولد.
4- تصارع إرادتي الحياة والموت في العراق. . أشار الكاتب إلى هذه الجزئية، حين انشأ ناصر الكردي حديقة جميلة للأزهار في مركز تسليم جثث قتلى الحرب، تسقى بمياه خلطت مع رشح الجثث المكدسة في برادات الموتى.
5- الإشارة إلى طغيان النزعة الدينية الزائفة عند بعض العراقيين بعد عام 2003 لتحقيق مكاسب شخصية.. مثل علاوي السِكِن الذي تحول إلى زعيم ديني مرموق، وحمدان السائق الذي أصبح إمام جامع.
6- خلق مقاربات بيئية وتاريخية واجتماعية، بين حرب السنوات الثمانية وما يجرى في العراق بعد 2003.
7- تحويل فتدق كويستيان الى عراق مصغر، ومرآة عاكسة للواقع العراقي المأساوي في ظل فوضى التغيير