ادب وفن

اليد تتذكر.. اليد تنسى كثيراً / حميد حسن جعفر

من غير موجهات، من غير عتبات، عنوانات، من غير فهرست، من غير تجنيس إعلامي سوى ما يخص تعريفات دار النشر.
عندما تتجمع كل هذه المفاصل عند نص ما، يتحول الحضور الى غياب، وتتعطل البوصلات ويبدأ القارئ بصناعة نوع من الانسحاب الى الداخل، الانكماش، نوع من الدهشة المضادة.
النصوص بسبب هذا وذاك تتحول الى مدونات هلامية، الى قطرة زئبق ملتمة على نفسها لا تريد مغادرة الانتماء الى القنفذ كائنا درعيا، أو الحيوانات القوقعية خوفاً من سوء فهم الآخر، المتلقي.
الشاعر يرمي بقارته وسط نص كهذا ، قصيدة، متجمعات.
***
الشاعر مغامر، لا يركن إلى الهدوء. هكذا سيجده القارئ في "يدي تنسى كثيراً" الصادر عام 2014 عن "دار ضفاف"، الديوان، الكتاب الشعري.
مقداد مسعود غير ميال الى الاعتيادي، أو الى الشكل، البنية التي تشكلت القصيدة من قبل بين يديه ووفقه، ولكنه لا يستغني عن القصيدة التي تقر وتعترف هي قبل غيرها بأنها تختلف عن غيرها.
***
وجود الوضوح، أو الحدث، أو البؤرة أمر لابد منه في نصوص، قصائد تلك اليد، إلا أن هذه المفاصل، المحاور غير مهيأة للإعلان عنها كثيراً. إذ ان الاشارة اليها هي كل ما يمكن أن يقوم به الشاعر من مساعدات تقدم للقارئ من أجل ادارة شؤون القراءة، والوصول الى نهاية النص. اذا ما كانت نهايات يقدمها الشاعر للقارئ والقصيدة.
لا أعتقد أن من السهل الحصول على مجموعة قراء، قارئين والحفاظ على وجودهم القراءاتي في فضاء النص، فالمفقودات السابقة – العنوانات، الموجهات ومشتقاتها – هذه الغيابات قد تدعو في لحظة ما الى تهديد العديد من مفاصل القراءة، وقد يشعر القارئ باليأس من الفعل القراءاتي.
هذا الشعور يتجسد في البدايات، حيث لم تتوضح بعد التجربة الكتابية الجديدة للشاعر ولم يأخذ فعل الكتابة مداه. انه الممارسة التي تشوبها الريبة والخوف من الفشل للقارئ الغريب على الشاعر.
***
هل من الممكن أن تشكل منحوتة الفنان عبد الرضا بتور التي اختارها الشاعر – حتماً – بسبب الصلات المعرفية والفكرية والاجتماعية لتشكل عتبة للشعر. "حجر بفتح الكلمة" هل استطاعت هذه المنحوتة التي لم تكن قد امتلكت عنواناً – لا أعرف كيف يتشكل الوضوح، العنوان من خلال تراكم الغوامض. حجر يشكل ثريا النص. كيف سيتمكن القارئ من استقبال نصوص مدونة يتقدمها نص منحوتي حجري. أم إنها سوف تزيد من عتمة وغموض موقف القصيدة والشاعر والقارئ.
إنها نصوص معلقة، من غير عناوين، منحوتة مغلقة، من غير عنوان.
إذن على القارئ أن يكون ثلاثيا "شاعرا وفنانا وقارئا" هنا يكون القارئ في حل من الحلول الجاهزة، بعيداً عن التفاسير والشروح، قريباً من صناعة المعاني هنا تلعب ثقافة ومعارف القارئ والقراءة أكثر من دور في صناعة استقبالات تتأكد من دور البعض في صناعة الجمال.
واذا ما تعمد الشاعر وضع بصمته المنتمية إلى الكتابة فهل هذا في واحد من معانيه أن يقوم القارئ بوضع بصمته الخاصة المنتمية الى القراءة المختلفة.
كل الأفعال في هذا المضمار تنتمي الى اللا متوقع، أي المعنى المفتوح على تعدد المحمولات وتعدد الاستقبالات، تعدد المفروزات.
***
ومن أن تكتمل "اللا رسالة"، الكتابة غير المعنونة كانت البداية مع التجنيس فالشاعر لم يعين ارسالاته. لم يعلن عن الفصيلة الابداعية لكتاباته. لم يعلنها شعراً أو نثراً أو نصوصاً مقترحة، أو قصائد نثر، أو ما شاء له أن يقول – اذا ما تجاوز القارئ فصل دار النشر في الصفحة الثانية عندما تشير الى "الصنف".
إذن الانفتاح على مقترحات مجموعة القراء والمستقبلين كان أمرا مفروضا، مدبرا، وعلى القارئ أن يدخل الى ما نسته اليد، ليحول النسيانات الى شيء من التأكيدات.
***
المستقبل، القارئ لمبثوثات الشاعر قد يتوجس عدم قدرة قراءاته على مسايرة القصيدة هذا ما يمكن أن يحدث للنصوص، القصائد العشر الأولى من الأربعة والأربعين نصاً أو قصيدة، إلا أن هاجساً كهذا سوف تتساقط أسانيده عندما يبدأ القارئ بالدخول الى الثلث الثاني من أعداد القصائد.
عند هذه الفضاءات تنفتح آفاق الكتابة ليشعر القارئ ومن قبله القارئ بحالة خروج الى الاحتمالات الأكثر وضوحاً، قبولاً من قبل القراءة، واعترافاتها بوجود أشياء كثيرة تنتمي الى المخبوءات التي باتت تظهر وبشجاعة بعض منتجاتها لتشكل من بعد ذلك الكثير من الكشوفات.
***
هل كان القارئ الضمني، القارئ المخبوء – المتوقع في باطن الشاعر دور في مطالبة الشاعر ذاته بصناعة شيء من الثيمة، الفعل المركزي للنص، شيء من العلامات، شيء من الوضوح.
شخصياً كقارئ أتوقع أن يكون هذا واضحاً في الصفحة الخامسة الشاعر بعينه. فالمتقدم بالفعل القراءاتي يوفر الكثير من الشخصيات والأحداث الدالة على تشكيل صورة النص، ووضع الخرائط والجغرافيات المتضامنة لإلغاء الضبابية الكاذبة من أجل توفير قراءة فيها شيء من الطمأنينة، طمأنينة القارئ على مسيرته وابتعادها عن التيه وانسياقاتها خلف التغريب الكثيف، لم يبخل الشاعر وسط هذا الوضوح على شاعرية النص، بل تكثيف شاعرية الكتابة هو تكثيف للاضاءات الموجودة داخل النص ذاته، اضاءات الوضوح وليست اضاءات الحشو.
عند لحظة الوضوح والاستقبال الذي لا يلغي دور القارئ في صناعة المعنى حيث لا شطب لخصوصية المتلقي، عند هذه النقطة يبدو أن دور العتبة، العنوان من الممكن أن يدخل فعل الإلغاء، إذ ان النص هو الذي يفصح عن العنوان المشطوب حيث تطيح القصيدة بالموجهات.
***
من مفروزات شاعرية مقداد مسعود وله بالمختلف سواء ضمن الفعل الشعري الجمعي لاختلافاته عن سواه، أو ضمن الفعل الخاص، الشخصي. فهو يعمل على أن يمتلك صفة المختلف عما سبق، أي إن الشاعر لا يمكن أن يكون ضمن المواصفات نفسها في كتاباته الشعرية. كل كتاب شعري، ديوان يمتلك نوعاً من التجربة، أي إن الشاعر يتشكل من خلال مفروزات تعدد التجارب، تنوعها وليس من خلال تعدد الحلقات الشعرية المكملة لذاتها يتشكل من خلال سلسلة حلقات متصلة، منفصلة عن سواها.
من المفروزات الأخرى أن مقداد مسعود مغرم بمعادلة شعرية ذات طرفين يتشكلان عبر الغموض، الوضوح فهو بقدر ما يتشبث بالغموض كسبيل لصناعة الجمال يظل ممسكا بالوضوح كوسيلة لصناعة القارئ، المتلقي. فالشاعر لديه قضية، مهمة، هدف، غرض كل هذه مجتمعة مهمتها الوصول الى صناعة القارئ. إذ لابد من ثلاثية طرفي المعادلة. الوضوح والغموض بضمنها ضرورة وجود المتلقي، ضرورة صناعة استقبال للقصيدة، حينها يتحول الشعر الذي هو "مبنى" الى قضية توازي حدها قضية "المعنى".
***
واذا ما كان من المتعارف عليه أن العنوانات وفي معظم الأحيان تشكل نقاط ضوء، فنجوم مقداد مسعود التي من المفترض أن تكون مضيئة – كانت معتمة، منغلقة على نفسها وبذلك اكتملت رسالة الشاعر المعلوم الى القارئ المجهول.
هل كان هذا الفعل مقصوداً؟ إلا اذا اعتبرنا أو علمنا أن الشعراء مغامرون. أم جاء كرد فعل ينتمي الى التجريب والغريب! أم إنها اللعبة! طالما حاول الشاعر الاستمرار بها عبر مجموعة كتابات.
من الممكن أن يقول القارئ وان يعبر عما يعتمل في دواخله ولكن هذا القول سوف لن يخرج من طقس الكتابة الباحثة عن محاولة استفزاز القارئ وإشراكه في صناعة النص.
***
هل حقاً إن اليد هي التي تنسى؟ معنى هذا إن اليد تمتلك من الذاكرة ما يؤهلها للنسيان والتذكر. "بصمة" هو النص الوحيد الذي امتلك إنارته، امتلك خطوط مرجعيته. هناك تتحول اليد، الطرف الى جزء مفقود، يمتلك من السمات ما لا تمتلكه الأجزاء الأخرى بل إن الجزء الذي يمتلك حقيقة تنفيذ الأفكار والتصورات الإرادية واللاارادية وتحويلها الى أفعال.
عبر اليد تتشكل الكثير من تواريخ الرفض وكذلك تواريخ الاستعباد، والقمع والشطب، وتنفيذ الأحكام، العقوبات، القطع – البتر، التقييد. من المؤكد أن لكل جزء من جسم الانسان مهمة أو مجموعة مهام، إلا أن اليد تتفوق على الجميع – رغم أهمية الجميع. إنها تصنع أفعالا وتنفذها، وتتحمل نتائج الأفعال التي تنتمي الى الصح والخطأ.
اليد أداة الانسان في تنفيذ أفعال الكشف والإبانة والإشارة والتلويح. اليد مجموعة هائلة من الأفعال المتناقضة، لقد قيل ويقال وضمن الحس الجمعي إن الانسان، لفظة اشتقت من النسيان، اللفظة ومازال يقال ان النسيان نعمة هل كان الشاعر يعمل على الاستفادة من استنتاجات كهذه في تشكيلات "اليد تنسى كثيراً" تلك اليد التي لم تكتفِ بالكتابة بل نافست العين في صناعة القراءة.
لابد للقارئ المتابع للمنحوتات والتماثيل والنصب التي تمثل الآلهة الأرضية من قبل ظهور الأديان السماوية، عندما تكون للآلة مجموعة أياد. تلك المنحوتات التي تؤكد على دور اليد في صناعة الحياة أو تدميرها، عبر سيطرة الآلهة على مقاليد الأمور، بل إن الفكر الديني جعل لله يدا فكانت "يد الله فوق أيديهم" و"يد الله مع الجماعة" و"يد الله مبسوطة" على القارئ أن يعلم جيداً أن "اليد التي تنسى كثيراً" ما ان تغادره حتى تنزل من ورائها ذاكرتها. تلك المدونات، القصائد التي يعترف عبرها الشاعر. وان اليد حين تنسى فان نسياناً كهذا لم يكن إلا بسبب فاعل، سلطة.
هذه المدونات توفر وجودا روحيا دائما لا سلطة لأحد عليه. هذا الوجود سوف يكون بعيداً عن تنفيذ القصاص "السارق والسرقة فاقطعوا أيديهما" في هذه اللحظة تتراجع سلطات الإلغاء المادي، الجسدي، لعدم توفر وجود مادي لليد التي تكتب من تعويض إلا الإلغاء الجسدي بوجود روحي دائم لا يلغى، إلا ضمن وضع جزئي.
***
"اليد – التي – تنسى كثيرا" ما زالت تمتلك القدرة – وإن كانت بعض القدرة – أعني مقاومة النسيان عبر التذكر، ربما يشكل فن السرد رافداً مهماً من روافد الإبقاء على شيء من الماضي. وفي الوقت ذاته يشكل الاسترجاع، التذكر نقطة مشتركة ما بين الشعر والسرد. لذلك سوف يعثر القارئ على الكثير من الاسترجاعات التي تعتمد عليها القصيدة في صناعة مقاومة النسيان.
في الربع الأخير من المدونات، الاستذكارات يطلق الشاعر خزينه الشعري والسردي ليستقبل القارئ الكثير من الثيمات، الأفكار التي تعتمد لغة السرد وسيلة للوصول الى القارئ. هذه الصفة تذكر القارئ بالتاريخ الشعري للقصيدة والشاعر. يبدو هذا واضحاً في اضاءات النجمات المعتمات "التاسعة والثلاثين، الأربعين، الثانية والأربعين" وبقدر ما كانت اليد تستعين بالغموض عند أداء أفعالها راحت تعتمد الوضوح في تثبيت مواقف الشاعر.
وما على القارئ سوى أن يتحقق من ذلك عن طريق اعتماد وسيلة القراءة، حيث القراءة ولا سواها تشكل وسيلة التذكر، وسيلة الاعتراف بأن اليد بإمكانها أن تفعل الكثير من الحيل لصناعة التغيير