ادب وفن

العنقاء" والرمز الاسطوري / نور عبد الله سالم ناجي*

من الواضح أن عنوان ديوان "العنقاء" لـلشاعرة ليلى محمود جادالله يثير نوعا من الفضول ، مما يدفعنا إلى التوجه إلى العديد من المسارات والمستويات، فعلى المستوى النحوي تم حذف المبتدأ، مما أدى إلى وجود غموض دلالي يدفعنا إلى قراءة الديوان كاملا ومعرفة مدى الترابط بينه وبين العنوان.
جاءت كلمة العنقاء معرفة بأل التعريف، وهذا يدل على تجنيس العمل الشعري عن غيره من الأعمال، أو أن زيادة أل التعريف قد مكنتها من التعالي والتأبي، مما جعل هويتها غير محددة وواضحة.
جاء العنوان يحمل حكاية أسطورية، ارتبطت بالموروث الثقافي القديم، ولعل توظيف الرمز الأسطوري محاولة مقصودة من الشاعرة "للارتفاع بالقصيدة من تشخصها الذاتي إلى إنسانيتها الأشمل والأعم ".
في ديوان العنقاء كان انبعاث هذا الرمز الأسطوري متصلا مباشرة بمسار محدد وخاص، وهو مسار القضية الفلسطينية وما يكابده هذا الشعب من آلام وأوجاع.
ولعل استخدام دال العنقاء دليلا واضحا لما يحمله هذا الطائر الأسطوري من دلالات، فالعنقاء طائر خرافي يرمز إلى الانبعاث من جديد، حيث تقول الأسطورة :"إن هذا الطائر ينبعث بعد احتراقه مثله في ذلك مثل طائر الفينيق. ويضارع طائر العنقاء طائر السيمرغ عند الفرس".
حيث يرى الباحثون أن الإنسان في "صراعه مع الموت أبى أن يستسلم للهزيمة، الأمر الذي دفعه إلى ابداع عالم أسطوري يتغلب فيه الانبعاث على الموت.
لقد برز رمز العنقاء في شعر الشاعرة ليلى جادالله حاملا دلالة الانبعاث من جديد والعودة إلى الحياة من رماده ومن هذه القصائد قصيدة "العنقاء" التي حملت اسم المجموعة الشعرية، وقصيدة "ولدي" والتي مطلعها: كما العنقاء في بلدي
أرى العلياء في ولدي .
ثم نجدها أيضا تقول في قصيدة "زفاف الحسناء":
تتلو ترنيمات الحياة بخفت .. أمام مقصلة الحرائر
وتردد الياسين .. عله يخلق .. من في الكفن ثائر
أمّا في قصيدة "بندقية الأمل" فتقول:
تحت جليد حارق نجود بالكفاح .. وفي كل جفن دمعة أملها انشراح .
تقول الشاعرة أيضا في قصيدة "خلف هذا الدمع.. عيد": : قم وحرر أمنياتك .. احضن الحلم الجديد . قم لتغسل حزن ذاتك ... خلف هذا الدمع عيد .
من خلال هذه الأسطر الشعرية تبين أن العنقاء كانت دالة على غطرسة أحداث تركت آثارها على الشاعرة كما تركته على الشعب الفلسطيني أرضا وشعبا وقضية وصراعا مع البقاء والموت، والنضال من أجل الحياة والبقاء.
أما بالنسبة لغلاف ديوان "العنقاء"، فأهم ما يميزه طغيان اللون الرمادي بدرجات مختلفة، وقد احتل حيزا واسعا من الغلاف كما وامتزج الرماد باللون الأحمر الناري المنبعث من طائر "العنقاء" فناقض اللون الرمادي المعتم، اللون الأحمر المشع، وهذا ما عزز نبوءة الأسطورة ، حيث أن رمز العنقاء متصل بفكرة الانبعاث أو التوالد في ظل الفناء، والشاعرة تعيش على انتظار هذا الانبعاث، لأنها تؤمن بحتمية اشتعال النضال الذي سيحرق مظاهر الموت والانكسار، ويعيد خلق كون أو ولادة جديدة تضيء في لا وعيها شعلة الأمل والتحول.
وختاماً :
استطاعت النصوص الموازية في ديوان الشاعرة: ليلى جادالله أن تكشف عن استراتيجيتها في الكتابة ومكنت الباحثة من الوصول إلى الآتي:
استطاعت لوحة الغلاف أن تشكل مرسلة موازية ضمنية بصرية مررت عبرها الشاعرة أفكارها، وكشفت استراتيجية الكتابة وتمكين الشاعرة من الانخراط في صلب إشكاليات عصرها، كما وخلقت تضاريس الغلاف عتبات نصية أمام القارئ، وقدمت له فرصة لاستكناه المقروء، والمرسوم مازجة بين قدرتها الجمالية التزيينية والدلالية.
ومكّنت العنونة الشعرية من ولوج النص حين تحولت من مجرد حلية خادمة للنص وتابعة له إلى سؤال ليس أقل صعوبة من سؤال الإبداع ذاته وهو ما يقود إلى القول إن العنونة الشعرية عند الشاعرة عبارة عن حقل لُجاج وتأويل بامتياز.
النص وبفعل القراءة يعود ويتشظى من العنوان، بذلك نؤكد على أن العنوان لم تعد لافتة مجانية تعلق على ظهر الغلاف بل مسألة دلالية تحدد هوية القصيدة ووجودها؛حيث يتجه سهم مسيرة عنوان الشاعرة من المباشرة والتصريح إلى الإيحاء والتلميح، ومن الحقيقة إلى المجاز.
فمنذ اللحظة الأولى يثير هذا العنوان مخيلة القارئ، تعانقه دهشة في لقائه الأول معه، ليكتشف بعد ذلك أنها دهشة لا تزول إلا بعد قراءة العمل الشعري كله.
لم تكن عتبة الإهداء بمعزل عن بناء دلالتها بتعلقها مع النص الشعري المُهدَى فكانت فضاءً دلاليا وتأثيريا ساعد على المساهمة في تقبل النص، فخرج الإهداء من صُلب المتن الشعري.
وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن الوقوف في حضرة العتبات لم يكن بسيطا، فمع أنها بنيات مكثفة ومختزلة؛ إلا أنها واسعة دلاليا، ولا نستطيع أن نجزم بأن أية إضاءة للنصوص الموازية هي قطعية حازمة، بل تبقى نسبية متجددة مع كل قراءة جديدة .
ــــــــــــــــــــ
* كاتب فلسطيني