ادب وفن

"الذباب والزمرد".. تشكلات البنى الاجتماعية والتقابلات والأنساق السردية / د. سلمان الكاصد

المكون السردي في استهلال الرواية
تبتدئ رواية الذباب والزمرد في فصلها الأول بسارد ذي شخصية إشكالية، وهو ذلك البطل الذي لا يمتلك سلبية أو إيجابية على مستوى الفعل.
إن البطل هنا يعيش تردداً بين عالمين وهما الذات والواقع "الموضوع"، إذ يبدو في وضع مشتت، وفي مجتمع قاسٍ، بالرغم من أنه يتبنى مفاهيم مثالية، ولكن هذا الواقع "الموضوع" يبدو أكبر من ذاته، التي أخذت بالاضمحلال، وهو هنا في إطار رواية البطل الإشكالي الذي يبحث عن قيم أصيلة، بالرغم من أنه لا يجد تلك القيم في مجتمع يجهل القيم ذاتها، لا بوصفها قيماً منهارة بل لكون هذا المجتمع قد افتقد الفعل، بعد أن نسي قيم التغيير، وكل ذلك يحكمه الاضطراب والتردد، في البحث الذي ينتهي بالبطل الإشكالي إلى عدم تحقق الوعي الممكن بالوصول إلى الفعل، ومركز الحياة بمعناها الإنساني الراقي.
هذا البطل الإشكالي "السارد العليم" في رواية "الذباب والزمرد" لا يملك إيجابية، بل هو غير فاعل في البنية الاجتماعية، على الرغم من أنه فاعل سردياً في الرواية، إذ يظل حتى خاتمة الرواية مضطرباً في مأساوية تتحكم به، في كل الخيبات التي ينقاد إليها، بفعل فشله في تحقيق طموحاته ورغباته، لكونه يعيش في مجتمع تتحكم به السلعة والتبادل الشيئي والمادية المهيمنة والفردية المطلقة.
يبتدئ السارد العليم "الممسرح" باستهلال خارج الحكاية، إذ هو يقتنص لعبة يقوم بأدوارها عدد من الأطفال، ويعيد هذه الحكاية ثانية، حيث يقيس أطفال المحلة أطوالهم بالأشبار "مفرده شبر"، ابتداءً من أصابع الأقدام اليسرى حتى قمة الرأس، على وفق تداولية لفظية بين شرطي/ حرامي/ شرطي/ حرامي، ليصل كل واحد منهم إلى قمة رأسه الذي تستقر عنده آَخر لفظة "شرطي أو حرامي"، حينذاك يصطف مع الأطفال الذين أصبحوا شرطة أو مع الحرامية في اللعبة, والغريب أن التوزيع النهائي للعبة، قد "وصل عدد اللصوص الصغار إلى أحد عشر لصاً مقابل شرطيين، أحدهما كان صبياً بديناً حافي القدمين، بينما الآخر أعور ".
ويعيد السارد "الممسرح" وصف هذه اللعبة ثانية، إلا أنه لا يعيد تركيبها بطريقة مختلفة، اذ شاهد "صبيا أعور يباعد بين أنامل كفه اليمنى، وهو يركع قبالة أكثر من عشرة أطفال، كان يعد طول قامته بأشبار قصيرة متعاقبة، وهو يردد مع كل شبر وبصوت مسموع، شرطي/ حرامي، شرطي/ حرامي وحين وصل إلى قمة رأسه هتف بأعلى صوته :"شرطي!"
هنا تبدو اللعبة الأولى "1" اعتباطية في حين بدت اللعبة الثانية في "2" قصدية، إذ خلق السارد محاكاة متطابقة بين:
اللعبة "1" الأعور/ شرطي اعتباطي
اللعبة "2" الأعور/ شرطي تماثلي
لم يخلق السارد مقابلة قلب "باروديا" بحسب فيليب سولير عندما حلل رواية "روبنسن كروزو" تلك الشخصية التي هيمنت على Friday "جمعة" الخادم في رواية دانيال ديفو، وذلك بتأثير الحضارة "روبنسون كروزو" على بدائية "جمعة"، إلى مقلوبها في تأثير "جمعة" البدائي على "روبنسن كروزو"، أي تأثير إنسانية وفطرية البدائية على استلاب الحضارة التي يمثلها كروزو.
أبقى الروائي عبد الكريم العبيدي في روايته "الذباب والزمرد" "على قوانين اللعبة الأولى ونتائجها، التي هي نفسها قد أعيدت في اللعبة الثانية، فبدت مقصودة لا تغيير فيها، وهي اللعبة نفسها التي تبدأ من الأسفل إلى الأعلى ولم يقلبها السارد، إذ أبقاها على أصولها، لعبة لا غش فيها، غير تلك النهاية التي كانت:
في "1" "حرامي".
وفي "2" " شرطي",
وكأننا هنا إزاء تصنيف للذوات بين الاتهام "حرامي" و القانون "شرطي"، حيث يظل الجميع متهمين إلا من الأعور والآخر البدين، وكلاهما يعاني تشوه "العور والبدانة"، أراده السارد " الممسرح " في النص الروائي، حيث تقمع الفئة الصغرى الشرطة "المشوهة " الطبقة الكبرى اللصوص" المقموعة " التي ينتمي إليها السارد نفسه.
مقابل هذه اللعبة، هناك لعبة أخرى يستجلبها الروائي من صراع السلطة والمحكومين، وهي لعبة تشكل قناعاً مرمزاً لما سيأتي من أحداث، حيث تروي الأسطورة الموظفة هنا، أن ايزيس كانت تتحلى بالزمرد وحده, ثم "اختاره النيرونيون عيناً ملوكية خاصة بهم، ليروا عبيدهم، ليرانا، فنحن وعبيد نيرون من شجرة واحدة، ذباب ذليل يصنع نشوة فائقة من هلاكه المتعاقب خلف أحجار الزمرد، ليستمتع بها آلاف النيرونات المدمنة على مص دمنا الأخضر المزرق لون الأباطرة المفضل الذي لا يجيد صنعه إلا زمردهم".
وتأخذ هذه القصة اليونانية محور الدلالة في إشارة إلى العسف، وبذلك تصعد باتجاه عنوان الرواية لتصبح مركزاً متعالياً حيث أطلق عليها "الذباب والزمرد" ضمن ما يمكن ان نسميه بالوظيفة الدلالية الضمنية المصاحبة التي هي واحدة من اربع وظائف " التعيينية والوصفية والإغرائية".
بعد أن يجرب السارد المحبط البحث عن أعمال كثيرة لا مجدية يفشل فيها، فيصاب بالإحباط، وحتى حين يقترح علية الشماس والقس المسالم "أزيريه" أن يربي أصص الزهور في علب يجمعها الأطفال إليه من القمامة، في محاولة دلالية لتحقيق "وعي ممكن" يتطابق مع رؤية أزيريه المسيحي، ويتعارض مع واقع السارد "الممسرح"، تفشل اللعبة الثالثة هذه في خلق عالم تفاؤلي، وكأننا إزاء ألعاب ثلاث وهي:
1- لعبة الشرطي والحرامي بغلبة الأعور والبدين وفوزهما بالسلطة.
2- لعبة الذباب والزمرد القناع الدلالي الفرعوني ثم اليوناني على القسوة.
3- لعبة زراعة أصص الزهور التي لم تبع، بغلبة الحرب على السلام، والذي دعا إليه أزيريه "الشماس المسيحي" بدلالة دينية.
ونعود ثانية إلى استلاب الواقع القائم اذ لا يلبث البطل أن ينتهي إلى أحد أمرين، إما الاحتكام إلى الآلية الاجتماعية وإما إلى العزلة والوحدة، ولهذا نرى أن البطل السارد هنا يقاد قسراً وفق منظومة القيم التي زرعتها السلطة في المجتمع "معاداة السلام" إلى أن يمتثل للآلية الاجتماعية، بأن يوزع أصص الزهور التي لم يستطع بيعها على الأطفال الذين أسهموا في إنتاجها، وكأنه بذلك ينهي مشروع القس أزيريه بالسلام المسيحي المفقود.
بعد هذا الفشل ينتهي السارد في الفصل الأول إلى بحثه عن صديقه المسيحي أوسم، فيلتقي به ثم تقودهما قدماهما إلى شقة "بشير التمار"، حيث يلتقيان صدفة بشفيق إبراهيم "اليهودي الأصل"، ومشاركته لهما سهرتهم الليلية.
"كنا علامتي إفلاس، ضائعين بائسين، نبحث عن سكرة طارئة في ذلك الليل، بعدما خذلتنا رائحة جيوبنا المفلسة، ولم يعد لنا أمل عدا سهرة خمر "يهودية"، داخل مقبرة اليهود في منطقة السعدونية بالمشراق على أنغام سفسطة شفيق إبراهيم، أو في مضيف بشير التمار دون جوان الفتيات ابن أشهر الأسر الموسرة ".
وبدلا من أن يذهبا إلى المقبرة اليهودية، قادتهما أقدامهما إلى شقة "بشير التمار": "كان تسكعنا يتجه إلى شقة بشير مبتعدا عن صخب سهرة محتملة في مقبرة اليهود مع عاشق إسرائيل شفيق الخصيباوي".
وشفيق الخصيباوي هي تسمية أخرى لشفيق إبراهيم، وخلال الطريق يسترجع السارد "الممسرح" أحداثا سابقة خارج زمن الحكاية تقود إلى معارك اشتركا فيها، حيث حقول الألغام التي بترت ساق شفيق إبراهيم الذي يتوكأ الآن على عصاه.
ينتهي الفصل الأول بخطبة لبشير التمار تقوده إلى بكاء مرير، ثم يأتي دور "أوسم" المسيحي، الذي أخذ يغني بصوت شجي وبعذاب هجران حبيبته "ليديا" له وخطبتها من شاب آخر.
سوف تظهر خطبة بشير التمار ثانية في الفصل الرابع، في دعوته إلى تمرد الذباب على من ينظر من خلف الزمرد "المجتمع والسلطة"، كما أن غناء أوسم الحزين سوف يكتمل ثانية في الفصل الثالث حينما يؤدي رقصة بوهيمية في عرس إحدى صديقات أخته "فيان":
"وحالما شاهد ليديا وخطيبها البدين، يدخلان يداً بيد وينغمران في ذلك الموج الراقص حتى انتفض فجأة وشق الجموع المنتشية باتجاه العروسين وشرع في الرقص على إيقاع أصوات صاخبة ".
ويتجه السارد إلى تسجيل إخفاقاته في الحصول على عمل، ليرصد عبر بحثه المتواصل كل مآسي البنية الاجتماعية، التي امتثلت إلى الآلية الاقتصادية المنهارة، والتي تحكمت في مصائر أفرادها، إذ يلتقي في السوق بباعة حيث يقول: "تربطني بهم صلة القرابة، فقد أحصيت أحد عشر بائعاً من أولاد أعمامي وأخوالي وعماتي وخالاتي، كما شاهدت ثلاثة صبية من أبناء شقيقاتي وهم يجوبون السوق حاملين ساعات اليد البلاستيكية والنظارات وأكياس النايلون والمحابس الفضية". وخلال ذلك نلحظ تكرار الرقم "أحد عشر حراميا" و"أحد عشر بائعا"، وكما يبدو أن هذا التكرار لم يأت اعتباطا وإنما هو جزء من الموروث الديني المهيمن على خطاب السردية العربية.
كما يشاهد السارد الممسرح معلمه التركماني العجوز سليمان البياتي وهو يبيع الساعات القديمة.
الفعل السردي
مع ظهور كل شخصية جديدة يبدأ السارد الممسرح بمسح كامل للخلفية الحياتية للشخصية، عبر الفعل السردي "كان" الذي يتكرر مع كل بانوراما جديدة لشخصية جديدة تظهر في السرد.
"كان البياتي مدرساً بارعاً في مادة التاريخ، بل كان موسوعة أدبية وفنية ".
كما يرصد شخصية حامد النداف صديق البياتي ومجاوره في السوق:
"كان النداف الطيب على يقين بأن دقائق الاستفسار الخمس ستتحول كالعادة إلى شهور أو أعوام".
جاء ذلك في وصف حالة النداف يوم اعتقال البياتي على اثر وشاية من مخبري السلطة، وفي لحظة الاعتقال تلفظ البياتي بلغته التركمانية جملة غامضة أوصى بها النداف بأن يدفن جثته قرب إخوانه الثلاثة فقال:"بيزلر بيزلر بيزلرك، قانلي كفن كييه رك".
وهذا الاستخدام اللغوي الذي يهجن فيه الخطاب، يذكرنا باستفادة نجيب محفوظ في روايته "الحرافيش"، من توظيف اللغة الفارسية في التكايا، التي كان يذهب إليها أبطاله، حيث يورد نصوصاً شعرية يرددها مريدو التكية.
عندما تظهر شخصية يحيى شقيق السارد تراه يستخدم الفعل نفسه "كان"، وبذلك يقدم الروائي عبد الكريم العبيدي شخوص روايته بطريقة يجلب معها ماضيها، عبر فعل يسترجع فيه كل وقائع الحكاية، بارتداد سريع، يوفره له فعل الماضي الناقص "كان"، وبهذا يهيمن على ما يريد أن يسرده من معلومات عنه ثانية.
التقابلات السردية في الرواية
يعتمد الروائي على تقابلات سردية، يمكن تلخيصها بالبقاء تارة خارج الذات، عبر وصف من الخارج، مقابل الدخول إلى الذات عبر وصف من الداخل، وهذا ما نلحظه في هذين المقطعين المتقابلين، حينما اصطحبه يحيى أخوه الأصغر إلى تكية الدراويش:
وصف الجلسة من الخارج: "كان الشيخ نحيفاً طويل القامة يرتدي دشداشة بيضاء قصيرة... وكان يجلس في طرف القاعة بين عدد كبير من مساعديه وأتباعه الباركين على ركبهم قبالة الدفوف ".
وصف الذات من الداخل: "كان لدى غالبية الحضور استعدادا فطريا بذلك الانغمار الذي اجتمعوا من أجله، وقدموا من مناطق شتى لممارسته، وكأنه فاصل إشباع روحي بين ضياعين ".
وصف من الداخل "الذات": "كان يستسلم بلا أدنى قيد، يغمض عينيه ويستجيب بعبودية مطلقة للإيقاعات الموسيقية المدهشة".
وربما يمكننا أن ندعو هذا التقابل بالانتقال السردي من العام "الخارج" إلى الخاص "الداخل سردي".
ــــــــــــــــــــــــــ
* مقطع من بحث مطوَّل نال به الناقد الكاصد درجة البروفسور "الأستاذية". وسينشر النص كاملا في مجلة «الثقافة الجديدة» لاحقا.