ادب وفن

الى أمي في عيد الحزب / مزهر بن مدلول

في عام 1991، اتصل بي صديق من لندن، قال انه عثر بالصدفة على عنوان لأهلي في العراق، ويمكن لي مراسلتهم، كما اخبرني بأنّ الامر ليس سهلا، لأنك بالنسبة لهم ميّت منذ زمن بعيد ولا يخطر ببالهم ابدا ان تكون على قيد الحياة.
في ذلك الزمن الصعب، كانت الكتابة تنطوي على شيء من المغامرة، لكني بعد تأمل طويل، اخذت قصاصة ورق صغيرة وكتبت برأس بارد ويائس!: الى الاخ العزيز غني.. انا بخير.. موجود في الدنمارك.. اكتب لي اخباركم على عنواني هذا.... وضعت الورقة في مظروف وكتبت نفس العنوان الذي حصلت عليه ورميتها في صندوق البريد من دون اهتمام ولا قلق!.
بعد ان مضت عدة اشهر على ذلك الحدث، وانا ما زلت اسكن في غرفة في منزل كبير يتكدس فيه اللاجئون، جاءني الرد، رسالة قصيرة ومقتضبة، خلف سطورها يمكنني ان اشم رائحة الدهشة والدموع!، الشك والأمل، انهم لم يصدقوا بان تلك الورقة كانت مني، ابنهم الذي لم يسمعوا عنه خبرا واحدا منذ ثلاثة عشر عاما، يظهر فجأة، هذه خرافة، معجزة من المعجزات التي لا يمكن استيعابها!.
عندما تأكدت من انّ رسائلي تصل وانّ العنوان مضبوط، كتبت مرة اخرى، ورغم حذري الشديد، لكني حاولت ان امرّ على كل التفاصيل التي من شأنها ان تبين لهم بأني فعلا على قيد الحياة، كما كتبت في الرسالة جميع الاسئلة التي كنت بأمس الحاجة للحصول على اجوبة شافية عنها، كتبت عن سنوات الخوف والجوع والغربة، عن الذئاب العجيبة وهي تفترسني، عن الافاعي التي قاسمتني كوخي وخبزي ومنامي، عن الجبال والصخور والموت والهزيمة!.
رسمت على الورق مشاعرا تلتهب شوقا وحنينا الى قريتنا السومرية، الى الحقول والبساتين والماء والطيور وسيارة الخشب، الى أمي التي احبها، سألتُ عن احزانها، عن دموعها، عن تجاعيد وجهها، كتبت لهم بأني حالما اراها سأرتمي في حضنها، اشم رائحتها، اعود الى مهدها لتولدني من جديد!، فكانت كلماتي موجعة، كل كلمة رصاصة في قلب ضعيف!.
وصلت رسالتي الى اخي غني الذي مات في زمن الاحتلال وبسببه، وعندما فتح الرسالة وعرف انها مذيلة باسمي، ومن دون ان يقرأها ذهب الى بيت اخي الكبير الذي يجتمع عنده افراد العائلة من الكبار الذين اعرفهم والصغار الذين ظهروا من بعدي!.
وقف غني امام الجميع، دموعه تنهمر وجسده ينتفض، ورسالتي في يده ترتجف، حاول ان يمدّ بها لعلّ احدا يأخذها منه، لكنهم تجمدوا، كلا في مكانه، اصاب الجميع ذهول ما بعده ذهول، ثم انفجرت الدموع، الكل يبكي، الكل يصرخ، الكل يرتعش، الكل يتراجع الى الخلف، لا احد يريد ان يقرأ الرسالة كما لو انها لغم سينفجر حالما تلمسه!.
اسعفهم في قراءة الرسالة احد الضيوف الذي كان حاضرا في تلك الساعة، وما ان تيقنوا بأني لم امت، حتى انشرحت الصدور ولاح الفرح وتغيرت الملامح، ولولا الخوف في تلك الفترة لانطلقت الهلاهل، ونُحرت الخراف، وبدأت حفلة ظهور الميت، انفرجت اسارير جميع اهلي في تلك الليلة، ماعدا أمي التي لم تكن حاضرة، ولم تسمع كلماتي، ولن ارتمي في حضنها الى الابد!.