ادب وفن

في وجـوه الحُسْـن والقُـبْح: نبوءةُ الأدب الحيّ عمّا يأتي / حميد الخاقاني

يُـرْوَى عن أحـد العقلاء من أسلافنا أنه قالَ :"لكل شـيئ وجهان: حَسَـنٌ وقبيح". في هذا القول إشارةٌ إلى اجتماع الأضداد في الشيئ الواحد ونسبيَّتِها فيه. فقد يغْلبُ الحسَنُ القبيحَ عندَ هـذا، لزمان يطولُ أو يقصُرُ، ويطغى القبيحُ على الحسَنِ عند ذاكَ لزمان مماثل. وغَلَبَةُ أحدِ الضدَّيْن على نقيضه لا تنفي وجودَ الآخر ولا تُزيلُهُ. فالقبيحُ المغلوبُ، على سبيل المثال، يظل خَفياً، كامناً، في الأشياء وفينا، ليظهرَ ويسودَ في لحظة غَضَبٍ ما ، أو عصَبيةٍ وعُصابٍ لنفسٍ أو سلطةٍ أو مالٍ، أو ديانةٍ أو فكرةٍ ما، أو قومية أو قبيلةٍ، أو حتى لشخصٍ. وهذه الحقيقةُ التي عاشتها البشرية طوالَ تاريخها، وما تزال، تؤكدُ أنَّ فصيلةَ الوحوشِ لا توجَدُ خارجَنا وأنما هي بيننا وفينا.
ولأنَّ أهلَ العقول العاقلة من أولئك الأسلاف كانوا يرَوْنَ أنَّ "مالا يوصَفُ بكونه شيئاً لا يوصَفُ بالوجود، ومالا يوصَفُ بالوجود لا يوصَفُ بكونه شيئاً" فإنَّ تعبيرَ "كلِّ شيئٍ" في مقولة صاحبنا هذه يشملُ الموجوداتِ جميعَها : البشَـرَ وغيرَهم من المخلوقات، حتى من أضفى عليه الناسُ صفاتِ التقديس منهم. منظومات الأفكار والعقائد الكبرى وما جاءت به، الامبراطوريات، الحكومات، ساستها وسياساتها، المجتمعات، عاداتها وتقاليدها، ظواهر الطبيعة وغيرها. جميعُها تنطوي على نقيضَي الحُسْن والقُـبح، النَفْـع والضَرَر، الخَير والشَرِّ للناس وللحياة كذلك. أفعالُ أهلِ هذه الأشياء وأتباعُها، ومن يرتدي أقنعتَها، وممارساتهم في الحياة اليومية العملية وفي التاريخ، هي من يجعل أحدَ هذه الأضداد يفوقُ، في هذا الشيئ أو ذاكَ، ضـدَّهُ.
أحدُ مَصاديق هذه الحقيقة هو ما تحياه الولايات المتحدة الأمريكية منذُ انتخاب ترامب رئيساً لها. فهي تعيدُ، منذ شهور حائرةً ومُندهشةً، تأمَـلَ وَجْهـيِّ القُبْح والحُسْن فيها. وهما وجهان عرفتهما، وعُرِفَتْ بهما طوالَ تاريخها كله، وما تزال، وعرفهما العالمُ معها. وجهُها القبيحُ كابدَ وحشيتَه هنودُها الحُمر، سكانُها الأصليون مثلاً. وكان لمواطنيها السود تجاربهم القاسية والمريرة معه لعقود طويلة. ولم تَبْقَ بلدانُ العالم الأخرى وشعوبُها، خاصةَ تلك المُسماةُ بالنامية، بمنأى عن شـروره، وإلى يومنا هـذا. العراق وسوريا أمثلة على ذلك. ذاكرةُ مدينتَي ناكازاكي وهيروشيما اليابانيتَيْن ما تزالُ مُغطاةً بالرماد النووي الأمريكي وحرائقه منذ ما يزيد على 70 عاماً، وستظل هكذا طوال التاريخ. الوجهُ الأمريكي القبيح ذو النزوع الامبراطوري الحديث لم يرَ في المدينتين ومواطنيهما المدنيين غيرَ مُختَبَرٍ وحقلِ تجارب لسلاح الدمار الشامل الجديد. لم يكن لاستخدام هذا السلاح معنىً أو ضرورة في الحرب التي شارفت على نهايتها، واليابان كانت قد بَصَمَتْ على بيان هزيمتها واستسلامها، وهو ما كان معلوماً للقادة الأمريكيين قبل جريمة الضربة النووية هذه. الطياران اللذان أوكِلت لهما مهمةُ إيقاد هذا الحريق الجهنمي تحدّثا عن هذا فيما بعدُ. كانا قد مَضيا إلى القتل الشامل، والخراب الشامل، وكأنهما خارجان في نزهة!
حقوق الانسان التي بدأ يتغنى بها أول دستور أمريكي لا مكان لها ولا صوتَ إزاءَ حقوقِ القوة الامبراطورية الجديدة وصوتها!
تأمُّلُ لبرالي أمريكا الديمقراطيين، من مثقفين وإعلاميين وأكاديميين وفنانين وعلماء ومواطنين عاديين، لوجهَيْها هـذَيْن، في هذه المرحلة المصيرية لها وللعالم أيضاً، مُحاولة لإعادةِ اكتشافِ أنفسهم وبلدهم من جديد، واستعادة وجهه الحَسَن المُهَـدَّدِ بالفقدان الآن. الكثيرُ ممن لم يكن يكترثُ بالسياسة أبداً عادَ ليعرف نفسه فيها، وصار يخرجُ، نهايةَ كلِّ أسبوع، حاملاً لافتةَ احتجاجه على الرئيس الجديد.
أكثرُ من نصف المجتمع الأمريكي لا يكادُ يُصَـدِّقُ أنْ يُحْـكَمَ من رئيسٍ لا يرى غير صورتِه، ولا يسمعُ إلا صوتَه. رئيس يفكر بعقلية الجدران العازلة. يحتقرُ الثقافة والمثقفين، ويُفضِّلُ على قراءة الكتب عروضَ المصارعة الوهمية التجارية التي ظلَّ يواظبُ على حضورها، ويراهن فيها على المصارع الذي يتقمص دورَ الشرير الكريه فيها (جيلنا يتذكر هذا النوعَ من "الرياضة" التي أتانا بها عدنان القيسي من أمريكا، مطلعَ السبعينات، بمباركة من حكام ذلك الزمان لإلهاء الناس!). رئيس يرى في الصحفيين المستقلين، غيرِ الأتباع، "أعداءَ الشعب!" ما داموا يكشفون، بمهنيةٍ وحياديةٍ، وجوه القبح فيه. رئيس لا يتورع عن الكذب وإطلاق الاشاعة في خطاباته وفي "تغريداته!" على تويترْ . رئيس يرغبُ في أنْ يسوسَ البلدَ والناسَ، والعالمَ كذلك، عبرَ قراراتٍ وقوانينَ ذات دوافع أيديولوجية وعقائدية عدوانية، وبتفكيرٍ أحاديٍّ ذي نزعةٍ هتلرية. قبل أيام رحلتْ عن هذه الدنيا سكرتيرةُ وزير الدعاية النازية الألمانية آنذاك (غوبلز) عن عمرٍ بلغَ المائةَ عاماً وستةَ أعوام. وفي آخر حوار معها قالت: "حين أسمعُ خطابات ترامب وأقوالَهُ أتذكَّرُ خطابات منْ كنتُ في خدمتهم، وأمتلئُ رعباً".
أكثريةُ الأمريكيين قالت لترامب، وما تزال تقول له: "نحنُ لسنا أنت، وأنتَ ليس نحن" أو "أنت لستَ رئيسنا!". وهو نفسُهُ من قالها مُبتسماً، قبل أسابيع، في مؤتمر لممثلي ونشطاء يمين اليمين الأمريكي المحافظ ،المتشدد: "وأخيراً حصَلْتُمْ على رئيسكم!". هو يعي تماماً أنه رئيسُ الوجه الأمريكي القبيح!
وفي جَدَل أمريكا الحالي مع نفسها وتاريخها اهتدَتْ إلى أحد وجوهها الحَسَـنَة. أعادت، في هذا الوقت، اكتشافَ أحد روائييها الكبار: سنكلير لويس (1885 ـ 1951). وهو أول كاتب أمريكي يحصل على جائزة نوبل للأدب عام 1930، وذلك لفنه التصويري القوي، وقدرته الفائقة، عبرَ لغة الفُكاهة والسخرية التي تميزت بها رواياته النقدية ـ الاجتماعية، على خلق نماذجَ جديدة من الشخصيات الروائية.
في سياق هذا الجدل عرف الأمريكيون أنَّ ثمةَ (رونالد ترامب) آخر في تاريخهم الأدبي. عثروا عليه في رواية لكاتبهم هذا صدرت عام 1936 ، مع صعود النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا. روايةُ سنكلير لويس هذه تحمل عنوان "It Can’t Happen Here" (لا يمكنُ أن يحدثَ هذا عندنا)، وقد أعيدَ نشرها في الشهور القليلة الماضية بعدة طبعات شعبية رخيصة في أمريكا وبلدان غربية أخرى لتصبحَ الرواية الأكثرَ مبيعاً ورواجاً. واضحٌ أنَّ عنوان الرواية يَشي بروح السخرية والنقد التي تطبع أسلوبَ سنكلير لويس بطابعها. صيغةُ النفي في عنوان الرواية تنطوي على نفيٍ لهذا النفي وتمضي لإثباته عبر أحداثها. وهو ما تحقق حالياً هناك. آلياتُ الديمقراطية يُمكن، في لحظاتٍ تاريخية بعينها، أنْ تأتيَ بنقيض هذه الديمقراطية. أنْ تأتيَ بمن يفترسُها.
نُقادُ الأدب والناشرون، والقراء كذلك، مندهشون للتماثُل العجيب بين ما يحدثُ الآنَ في أمريكا وما تناولته الرواية، قبل ما يزيد على 80 عاماً، من شخوص ومشاهد وأحداث وأفكار، ولغةٍ حتى.
(بوزْ ويندْرب)، الشخصية الرئيسية في الرواية وشبيه (ترامب)، سيناتورٌ ظريف ومثيرٌ للسخرية، ليس متعلماً أو ذكياً بما يُلفتُ النظر. ضيقُ الأفق فكرياً، عنيدٌ بوقوفه عند الصغائر ، وفيه جوعٌ شـديد للسلطان (ما أكثرَ أمثالُهُ عندنا في العراق، وفي أمصار العرب والمسلمين عموماً!). في الرواية يخوض (بوز) الانتخابات الرئاسية في مواجهة (فرانكلين روزفلت) الحقيقي والواقعي. خطابه الانتخابي شعاراتٌ ووعودٌ تكادُ تتطابقُ تماماً مع ما أطلقه (ترامب) من وعود.
في خطاباته الشعبوية يعِـدُ هذا الشبيهُ طبقةَ الأمريكان البيض المتوسطة، ممن يصفُ أفرادَها "بالرجال المنسيين"، بأنه المنقذُ لهم من أحوال الركود الاقتصادي، وبأنه سيجعلُ من أمريكا "قويةً وغنيةً، ومزهوةً بالفخر" ثانيةً! ( قبلَ أيام عثرتُ في إحدى المكتبات في مُغتربي على كتاب صغير لرونالد ترامب مُترجَمٍ إلى الألمانية بعنوان "كيف سأنقـذُ أمريكا". لابدَّ أنَّ أحداً من الأتباع حرَّرَهُ له. ولكن يظلَّ أنْ نسألَ: ممنْ يريدُ الرئيسُ الشعبوي أنقاذَ أمريكا، في وقتٍ يريدُ غالبيةُ الأمريكيين فيه إنقاذَ بلادهم وأنفسهم، والعالمَ كذلك، منه؟).
كراهيةُ (ترامب) للثقافة والمثقفين نجدُها عند بطل الرواية أيضاً، إذ يُطلقُ هذا على المثقفين، هازئاً، صفةَ "نُخَبُ كُتُب". ولأنَّ صُحُفياً يسارياً لم يتوقف عن نقده وكشف معايبه وخطره على البلاد وأهلها، صار يرى في الصحافة الحرة مصيبةً ينبغي دَرءُ كوارثها!
ويظهرُ في الرواية إلى جانب (بوز) "سكرتيرٌ شيطاني" يوسوسُ لهُ بكل ما هو قبيح وسيئ من السياسات والقوانين والأفعال، وبما يُماثلُ تماماً (ستيفان فانون) ، العقلُ الستراتيجي الأشدَّ يمينيةً لترامب!
الأكثرَ إثارةً، في رواية لويس، هو السؤال الذي يطرحه أكثريةُ الأمريكيين على أنفسهم، وهو: "أهـذه هي الفاشيةُ، أم أننا مُتَعَجِّلون في قلقنا؟".
روايةُ سنكلير لويس تستفزُّ وعيَ قارئها وتمضي به إلى أنْ يجهَدَ في الإجابة على سؤال وجوديٍّ ومصيريٍّ له وللأجيال الآتية وهو: متى يجبُ أنْ يكونَ لي ردُّ فعلٍ حقيقي إزاءَ ما يحدُث في وطني وفي العالم؟
كثيرٌ من نقاد الأدب، في أمريكا وأوربا، أخذوا ينصحون الناس بقراءة هذه الرواية، خاصة في فترة نهوض الحركات الشعبوية وخطابها ذي النزعة الفاشية والعنصرية والقومية والدينية المتعصبة، واشتداد خطرها على الحياة والناس عموماً.
في بلادنا ومنطقتنا (لنتأملَ فيما يجري في تركيا الأردوغانية مثلاً) نعيشُ الظواهرَ والأخطار ذاتها، وإنْ كانت بأقنعةٍ أخرى مختلفة ظاهرياً، وأرى أنَّ الناسَ عندنا (أعرفُ أنَّ القراء الحقيقيين بينهم قليلون) بحاجة لقراءة رواية سنكلير لويس هذه، عَلَّهم يعودون لتأمُّل أنفسهم وأحوالهم نقدياً هذه المرة، دونما تبعيةٍ لهذه الفرقة أو تلك، أو لهذه الوعود الوهمية أو تلك. فهل تُبادر دارُ نشرٍ ما لإصدارها؟