ادب وفن

عبد جعفر .. قاص بدربة ابداعية مغايرة / جواد وادي

صدرت للقاص السبعيني المعروف عبد جعفر مجموعة قصصية جديدة تحمل عنوان "أحزان المرايا ومسراتها" عن دار مدارك للنشر بطبعة أولى عام 2015 بغلاف موحي ينم عن فطنة مصممه وغوره في تفاصيل السرد القصصي للمجموعة، تؤثث المجموعة سبع وعشرون قصة متفاوتة الطول والنفس والتناول، تتوحد كلها بهموم القاص ومكابدات لا تحتاج لجهد كبير لوقوف القارئ على لحظات الكتابة الآسرة والتي تجمع هموما ذاتية بحرقة معايشة قصصية، لا تبتعد كثيرا عن الهموم العراقية التي ما فتئ المبدع العراقي يحمل أوزارها ونوازلها، بل أن القاص جعل من ثيمات قصصه وعناوينها تمتح من خزين الهموم العراقية، حتى بات من العصي التخلص منها، لأنها أصلا حالات تسكن كينونة المبدع وارتباطه الوثيق بتفاصيل حياته التي اختزنتها الذاكرة المشوشة والموزعة بين راهن وجوده القلق، وماضيه بحلوه ومره، رغم بعد المسافة بينه وبين ما يحدث في وطنه من نكبات ونوازل، لكنما يظل العراقي مبدعا كان أم مواطنا متواشجا بقوة بأرضه وأهله وصحبه وذكرياته، لصيقا بها حتى يكون من العسير التخلص منها ولو لحين، ولعلي لا أغالي ومن خلال تناولي لعشرات الأعمال لمبدعين عراقيين في كل الأجناس الإبداعية وعلى امتداد خارطة الوطن المأسور بكل المحن والمتاهات والضياع، بأن شخصية المبدع العراقي على وجه الخصوص، لا تتحرر أبدا من عذابات البلاد ومناحات العباد، لأنه يختزن وجدا دائم الغليان في دواخل العراقي، قد تندر هذه الحالة لدى غير العراقيين، لان العيش بعيدا قد يخفف معاناة المواطن، بخلاف العراقي الذي تظل كوابيس الوطن تزوره وتكدّر وجوده حتى وإن توفرت له سبل العيش الرغيد، هذه الحالات تجعلنا ننحني إكباراً لهذا الوفاء النادر للمبدع العراقي وكل المشردين قسرا عن وطن المحن.
وما نحن بصدده اللحظة، ونحن في محراب هذه المجموعة القصصية الفاتنة، خير دليل إلى ما ذهبنا إليه.
يعتبر القاص عبد جعفر، مبدع سبعيني يتميز بكوابح قوية وبوصلة إبداعية قد تندر لدى العديد من المبدعين العراقيين، كونه يتميز بالصرامة في إخراج عمل جديد، لكونه يحتكم على معايير إبداعية تحد كثيرا من فيضان الإصدارات التي نجدها لدى غيره، وهنا يمكننا التأكد بأن هذه الحالة الجلية هي ما تميزه عن سواه من مجايليه، وحتى لدى الأجيال اللاحقة، كونه لا يحتكم إلا على ثلاث أو أربع مجموعات قصصية في مسيرة عطائه الممتد منذ بداية السبعينات وحتى يومنا الراهن، ولا ندري تحديدا لماذا هذا الطوفان من الإصدارات لدى العديد من مبدعينا الذين يزخون بإصداراتهم كل عام، وكأنهم يمارسون سباق المسافات القصيرة، حتى يعزف القارئ عن متابعة البعض منهم، لأننا نلاحظ ظاهرة التكرار والاجترار الذي يفسد جهد الكاتب، مع احترامنا للبعض ممن قد يخرجون من دائرة هذا التوصيف.
عنوان المجموعة بحد ذاته يشي بحجم المعاناة التي يكابدها القاص عبد جعفر "أحزان المرايا ومسراتها" ومما يثير الدهشة حقا، الإهداء الذي يطالعنا حين نلج عتبات المجموعة والذي يحتشد بالمعاني الفاطنة فيقول:
(إليهم... من غادروني إلى الأبدية من دون أن أراهما: أمي وأبي، وأشقائي، صادق، وعلية، وعلي، والشهيد فاخر...)
أدعو القارئ لأن يتفكر مليا بطبيعة الإهداء الذي أظنه يتداخل بقوة مع عنوان المجموعة، وهنا يكون القاص عبد جعفر لسان حال الآلاف من العراقيين المبتلين بالطاغوت وقمع الفاشست، كونهم عانوا من ذات الفقد العظيم لأهاليهم ولأحبتهم وصحبهم ورفاقهم، دون أن يلقوا عليهم النظرة الأخيرة والترحم على أحبتهم، لا لذنب اقترفوه سوى أنهم كانوا يرفضون حالات التدجين وبيع الضمير، ورفضهم أن يكونوا سببا في تصفية الآخرين من خلال التقارير الكيدية والتي أدت إلى قطع رقاب الآلاف من العراقيين الأبرياء. ومبدع هذه المجموعة وكاتب هذه السطور من ضمن من ابتلى بهكذا حالات مشينة، لرفضهما عرض سلعتهما كبقية الخانعين، الذين يصولون ويجولون بعد أن بدلوا جلابيبهم القديمة بأخرى تلائم حالات التدني في كل شيء في وقتنا الراهن.
هنا نلاحظ الربط الفاطن والموجع بين عنوان المجموعة والإهداء، لنهيئ أنفسنا لهموم ستلامس أكبادنا ونحن نلج قصص المجموعة ونتهيأ لبعثرة ذواتنا المكلومة أصلا، لأن الكاتب سيربك لحظات القراءة، لتتحول إلى حالات من الحزن والتأسيء بتذكّر الأحبة والأصدقاء وكل الراحلين بعد أن تحولوا أرقاما في لوائح المحو البعثي.
في قصته التي تتصدر المجموعة الموسومة "الذئب" تدور أحداث القصة في أجواء ملبدة بالخوف وضمور اللحظة والتحدي، بتوظيفات رمزية خرجت عن مألوف الحدث العادي لتحيل القارئ إلى فطنته في اقتناص التفاصيل الملتبسة.
يستطرد القاص بحكايته التي يشوبها التشويش والإحالات الرمزية بدرية حكائية تجعلك تواكب الحدث الذي يتضمن الكثير من المفاجئات:
(احتارت القرية في أمره "الذئب". البعض قال كان له رأس، الآخر أقسم أن لا رأس له! رئيس الشرطة قال: ربما كان له رأس لكننا سنحتفظ ببصمات أصابعه وسأسجل أنه مات موتة طبيعية) "الذئب ص 15". هذا غيض من فيض الحياة المشوشة لناس تلك البلاد.
في قصته الموالية "من قتل محسن العلوان؟" لا تبتعد أحداثها عن ذات المنحى الذي تغم النفس، يجلل أحداثها سيلان الدم والموت وصراخ النسوة ونحيبهن، رحلة من العذابات والخوف والرهبة (منذ أن كان طفلا، وهو يعمل في دكانه، ولم يتركه يوما، كأن أمه رمت سره فيه، شاخ ولم يتزوج. أعادت إجابة جدي سؤالنا الموجع: من قتل محسن العلوان؟ ص 23)
(جنون حمدان قادني للتهلكة، وأدخلني، دون أن يدري، ثقبا ضيقا بسعة سم الأبرة) (قصة خارطة سوداء ص 33).
أرى شخصيا من خلال قراءتي المتمعنة لنصوص عبد جعفر، أنه لا يكتب لذاته ويخرج ما بداخله من مواجع ليسطرها على البياض من باب تحصيل الحاصل، إنما هو يتقصد وبشكل لافت أن يشرك القارئ في لحظات المخاض العسير للكتابة وكأني به يريد أن يقول للقارئ، بأنني أنوي أن اوزع العذابات بالتساوي بيني وبينك، لأخفف من متاعبي، فأريح وأستريح. وهذه من سمات الكاتب الذي يحتكم على دربة متميزة في الكتابة، سيما أن القاص عبد جعفر يختمر بداخله ركام من العطاء السردي الذي وللأسف لم يجد طريقه بشكل منصف لأسباب قد لا تكون غامضة بالنسبة للقارئ الفطن القريب من تجربته الممتدة لعقود، وهنا يكمن الحيف الحقيقي الذي يعانيه المبدع.
جلبت انتباهي عناوين المجموعة التي لا تخلو من الغرائبية نذكر منها:
*غيمة على جرف مهجور والتي يبتدئها بسؤال: هل أرضعت الكلبة ولدها؟ ص39
*النازل إلى الأعلى "لا هذا وذاك حمار نبت له جناحان وطار. ص 50"
*عواء الليل "قلت رصاصة واحدة فقط وإياك أن تترك واحدا منهم!" ص87. نلاحظ أن معظم شخوص قصصه إما منكسرين ومهزومين او لديهم رغبات شرسة للفتك بالآخرين.
من القصص التي تحمل عنوانا ظريفا قصة " مريدي" وهذا هو اسم سوق كان في السبعينات صغيرا ولا يتعدى كونه يحتوي على الخضر واللحوم والسمك وبعض الفواكه، ولم يكن بذي أهمية، ليصبح الآن من أكبر الأسواق البغدادية بتنوعه الذي يتخصص ببيع وشراء كل ما يخطر ببال المرء حتى تحول إلى أكبر ملجأ للمزورين والسماسرة وحتى باعة الرقيق من كل نوع وفصيل، فلا غرو أن يلتقط القاص هذا الحضور المكاني بكل متناقضاته ليعيد حالة الربط بين ما كان عليه هذا السوق وما عاد لاحقا في زمن التسيب واللاقانون.
(سوق مريدي مئات من الرغبات المتنافرة تفترش الأرض، وتغمر الشوارع والأرصفة بالصفائح وصيحات الباعة، لتنام على خاصرة المدينة) "مريدي ص 93".
جميل أن يقتنص المبدع أمكنة وحالات تستوطن لا وعيه لتنتفض كحالة من مواساة الذات الكسيرة ليعيد فيها الحياة رغم فقدانها لألوان التفاصيل، ليخرجها للأجيال اللاحقة لما لها من تأثير كبير مخزون في وجدانه، كمحطة لها من الإيلام ما لا يمكن نسيانه، ليتفاجأ لاحقا بأن ما كان عالقا في ذهنه من صور وتفاصيل شوهتها حالات الكوارث التي مر بها العراق لتحيل كل جميل وحبيب إلى دهشة وخراب وضياع بازاحات لا بقصد البناء الدرامي، بل بقصدية ما حملت من حرائق التهمت كل شيء. على واقع معاش ومرير، وهنا يكمن في الوفاء الحقيقي للمبدع الأصيل ولناسه وأرضه المبتلات بالنحيب والأوجاع الدائمة.
في نصه القصصي الموسوم (أصابعي) والتي تشي بحجم العذابات والمهانات التي واجهها المغتربون الهاربون من جحيم الطغيان البعثي والمنتشرون في أصقاع الكون، فيها من الأسى على ما وصل إليه اللاجئ العراقي بعد أن كان على قدر من الأنفة والاعتداد بالنفس، ليصبح رقما غير مرغوب فيه:
"دفعني بقوة (شرطي المطار)، وأغلق باب المطار دوني. وجدت نفسي وحيدا في الشارع نظرت إلى كفي لم أجد أصابعي، فزعت، هرولت مسرعا نحو باب المطار أطرقه. "ص 105". فقط ما وددت الإشارة اليه أن القاص لم يكن موفقا بظني في اختيار العنوان الملائم لمحتوى القصة الموجعة هذه.
من سمات القصص جميعا نلاحظ اختزالها لغويا وسردا بحضور مكثف للزمان والمكان، بمعظمها طبعا، لتتسم بالقص القصير نسبيا، بجملها وانتقالاتها، وهذه تحسب للقاص، لكونه كان ينوي أن يكثف الحدث القصصي ويبتعد عن السرد الممل مقارنة ببقية التجارب الأخرى مما يشجع القارئ أن يكون أشد شوقا بقراءة جميع القصص لتحقيق المتعة ويقف على قدرة القاص في الإمساك بتلابيب السرد الممتع دونما ملل أو غلق الكتاب قبل تتمته، وكأننا نقرأ نثرا مكثفا قريبا من الشعر منه إلى القص الموغل في التفاصيل المملة.
دونما مواربة أو مغالاة أمتعتني قصص المجموعة والتي أحزنني مغادرة عوالمها الممتعة أولا وثانيا حاولت جاهدا أن أكون دقيقا وحريصا على احترام مساحة النشر لمثل هكذا قراءات، رغم أنني كنت في توق شديد للتوسع والذهاب بعيدا لتخصيص دراسة بنيوية مقارنة للتجارب القصصية العراقية في السرد التي تعيش اليوم حالة من الانتعاش والنهوض الحقيقي ببروز أسماء شابة أثبتت حضورها الوازن، دون أن تعبر التجارب السابقة لتكون منهلا حقيقيا ورفدا إبداعيا لها، ومرجعية القاص عبد جعفر واحدة منها، كقاص ثري العطاء.
القصة التي وقفت معها طويلا والتي تحمل عنوان (رائحة الوطن) لما تتناوله من أحاسيس شفيفة وانكسارات حقيقية لقاص ظل أمينا ومتشبثا بتفاصيل ذكرياته وهو يعبر من محطة عمرية إلى أخرى وكأنه ينطق على لساننا جميعا، نحن المنكوبين العراقيين لنتوحد في ذات المواجع ويحرك فينا ما تراكم من أسى وحنين وفقد للأهل والوطن والتراب وكينونة الوجود الإنساني الذي ما خبا يوما بدواخلنا.
(أني مولع بالأزقة الشعبية لمدينتي التي غادرتها لسنوات، بدأت أتطلع لرماد ذكرياتي العالقة في شناشيلها وأبوابها الموصدة) ص121
هنا أترك القارئ لمتابعة الحدث القصصي وما يكتنفه من ألم وحسرة واحساس مرير بالغربة، لأننا جميعا بات زادنا الوحيد أن ننهل من رصيف ذاكرتنا التي أتعبتها المخاوف والفقد لأعز الناس ومسخ الأمكنة والقيم وكل ما هو جميل، لتبقى ركامات ما اختزنته الذاكرة الباهتة العزاء الوحيد لنا، فلا غرو أن يبعثر القاص ذواتنا التي اعتادت على حياة مغايرة ولكنها ما ازاحت يوما تلك المحطات التي عادت عزاءنا الوحيد.
يتقصد الكاتب أن يخرج القارئ من الأجواء الغائمة في جل قصصه، ليفتح نافذة، قد تنسيه للحظات حالات التأسي، ليفاجئنا بقصة عنوانها "نكد الزوجات"
(النكد من عادة الزوجات، ومنغصات زوجتي من النوع المتطور، فهي تشبه قنبلة ذات عشرة زعانف) ص131، هنا وبطرافة الحكي الممتع يخبرنا القاص أن نكد المرأة ليس في واقع الحياة فحسب، بل حتى في منامها وأحلامها، لتحيل حياة الزوج إلى جحيم..........
كنا نتوقع بأن المجموعة تتضمن قصة تحمل عنوان المجموعة (أحزان المرايا ومسراتها) لكننا وبمعايشة وجدانية ومشاركة نازفة ومبهجة في آن واحد، نلاحظ أن القاص عبد جعفر كان موفقا في تجميع كل هذه العناوين وما تحمله من أحداث منها الموجعة ومنها السارة ليجمعها بتوليفة ظريفة وشيقة ويقدمها لنا بقفة واحدة كمجهود نباركه عليه، آملين أن يتحفنا بغارات قصصية قادمة، وحبذا لو اشتغل على المتن الروائي ونظن أن في جعبته الكثير من العطاء والغنى السردي الممتع والرصين.
نحن بانتظار جديد القاص المبدع عبد جعفر وهذا الأمر ليس بالعسير عليه لكونه يحتكم على طاقة إبداعية تشي بكونه كاتبا كبيرا.
ملتقانا معه في عمل قادم.