ادب وفن

رشدي العامل: الرومانسية تتسربل برداء الحداثة / فاضل ثامر

تربطني بتجربة الشاعر الراحل رشدي العامل آصرة خاصة، اذْ تعرفت الى تجربته الشعرية منذ نهاية الخمسينيات، واطلعت بشكل خاص على ديوانه الثاني "أغانٍ بلا دموع"، الصادر عام 1957 بعد ديوانه الأول "همسات عشتروت" الصادر عام 1951. وكنت آنذاك طالباً في المرحلة الاولى في كلية الآداب- جامعة بغداد فقررت ان اكتب عن ذلك الديوان. وكانت الظروف السياسية تشير الى: أن تغييراً ثورياً في تاريخ العراق قادم لا محالة، وان الشعب العراقي سيتخلص والى الابد من ربقة النظام شبه الكولونيالي، شبه الإقطاع آنذاك.
وفعلاً فاجأت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 الجميع وكسرت القيد الذي كسرته أيضاً شخوص نصب الحرية لجواد سليم. ولذا فقد أعدت النظر بالمقالة مؤكداً على تطلع الشاعر رشدي العامل، الى فجر التغيير، ودفعته للنشر في الصفحة الثقافية لجريدة "البلاد" آنذاك، وللأسف لم احتفظ بنسخة او صورة من المقال لان الشاعر الراحل أصر على حقه في الاحتفاظ بها.
لقد لاحظت آنذاك ان رشدي العامل لم يفارق الرؤيا الرومانسية في تجربته الشعرية الخمسينية، وخاصة في ديوانيه الأول والثاني. إلا ان رومانسية رشدي العامل التي أعلن أكثر من مرة عن اعتزازه بها وعدم مغادرتها، ليست تلك الرؤى التي عبرت عنها الرومانسية العربية ممثلة بمدرسة أبولو المصرية ومدرسة المهجر اللبنانية وتجربة ابي القاسم الشابي الشعرية، بل هي رومانسية/ ثورية، وبشكل اكثر دقة رومانسية تستلهم روح الحداثة الشعرية الخمسينية التي أطلقتها تجارب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي ومحمود البريكان وبلند الح?دري وغيرهم. فمعظم قصائد "أغان بلا دموع" تعتمد قصيدة التفعيلة او قصيدة الشعر الحر وتتجنب التقفية والاسراف في التطريب وتلتقط مواقف ورؤى إنسانية حداثية. ففي قصيدة "العيون والطين" يوجه خطابا تأملياً متفائلاً الى حبيبة ما:
"جوزي معي، فالفجر يصحو على
أجفاننا، والليل للناس
وفي دمي تلهث محمومة
عاصفة تكتم أنفاسي
أخشى اذا ما هزّها بارق،
أن يستفيق العالم القاصي"
ويختتم قصيدته بدعوة صريحة الى الثورة:
"جوزي معي نصنع فجراً لنا
أقوى من العتمة واليأس
يهزُّ صمتَ الليل في خافقي
ويحتوي عالمنا القاسي"
لكن هذه المرحلة الرومانسية الثورية سرعان ما التحمت بمنظور حداثي بعد ثورة تموز 1958، وبشكل خاص عندما اعلن مع عدد من الشعراء العراقيين عن تأسيس جماعة "المرفأ" التي اتخذت من إحدى زوايا اتحاد الأدباء ملتقى لها. وقد ضمت الجماعة في حينها الشعراء رشدي العامل ومحمد سعيد الصكار، وسلمان الجبوري وحساني علي الكردي. ولم يكن بعيدا عن هذه الجماعة الشاعر سعدي يوسف والشاعر طراد الكبيسي. كان الهم الانساني لهذه الجماعة محاولة التميز عن تجربة الجيل الخمسيني، وربما تمثل هذه الجماعة اول محاولة مبكرة للخروج من أبوة جيل الخمسينيا? لخلق انموذج شعري مغاير وحداثة من طراز جديد. لكن الهم السياسي والتداعيات السياسية التي رافقت ثورة الرابع عشر من تموز لم تتح لها الفرصة لانجاز مشروعها التحديثي الجديد، فتفرق شعراؤها ضمن مسارات شخصية عرفت عنهم لاحقاً. وكانت تجربة رشدي العامل من التجارب التي اغتنت بالمنظورين الحداثي والرومانسي معاً مع انشغال واضح بالهم الاجتماعي، لكن النبرة الذاتية الحسية ظلت هي المهيمنة في تجربته الشعرية مع لون من العفوية والتلقائية وتجنب الصنعة والتخطيط المسبق للقصيدة وأحيانا الإنثيال مع الإيقاع الداخلي لموسيقى القصيدة وصور?ا وتحولاتها بانسيابية سلسة.
وعلى المستوى الشخصي عاد رشدي العامل بعد ثورة تموز من منفاه في القاهرة والتحق طالبا معنا في كلية الآداب قسم اللغة العربية حيث زامل نزار عباس وطراد الكبيسي وسامي مهدي وحاتم الضامن وهاشم الطعان وعلي عباس علوان وسليم عبدالامير حمدان وعبدالمنعم المخزومي وآمال الزهاوي وخالد علي مصطفى، وكانت كلية الآداب آنذاك تمور بنشاط ثقافي متميز دفع بالشاعر والناقد خالد علي مصطفى الى طرح فرضية نظرية قال: انه سيدعمها بشواهد مفادها ان كلية الآداب كانت هي الحاضنة الأساسية لحركة الحداثة الشعرية الستينية بينما كانت كلية التربية/ ?ار المعلمين هي الحاضنة الاساسية لحركة الحداثة الشعرية الخمسينية. كما التحق رشدي العامل آنذاك بجريدة "اتحاد الشعب" واصبح من محرريها الاساسيين ومن كتاب القسم الثقافي فيها. كما كان يكتب تغطيات صحفية رائعة للمسيرات والاحتفالات الشعبية. وقد انتظم آنذاك في تنظيم الحزب الشيوعي العراقي في كلية الآداب، لكن سرعان ما طلب نقل تنظيمه الى تنظيم اتحاد الأدباء وقد تحقق له ما اراد، لكنه لم ينقطع عن صلته بالحياة الطلابية والثقافية في الكلية وكان يقف مبهورا من جمال "صبايا" طالبات كلية الآداب آنذاك، فكان يتغزل بهن، وهو ما سبق?وان فعله السياب قبله وكن يستلطفنه لرقته وعذوبته وجماله. لكن سنوات الغزل والفرح لم تستمر طويلا اذ سرعان ما تكالبت قوى الردة والظلام والفاشية على مسيرة ثورة تموز؛ فغامت النفوس وانقسمت الصفوف. ومن مواقف رشدي العامل النقابية والطلابية سعيه الحثيث لاطلاق سراح الشاعر خالد علي مصطفى الذي اعتقل على خلفية شبهات بقيامه بنشاط سياسي لصالح حزب البعث آنذاك، وقد تم تكليف ثلاثة من طلبة كلية الآداب بمتابعة أمر اطلاق سراحه هم: رشدي العامل ونزار عباس وعبدالمنعم المخزومي، وقد تكللت جهودهم بالنجاح، وقد أكد هذه الواقعة الشاعر خ?لد علي مصطفى مع تأكيده للدور المتميز للشاعر رشدي العامل في ذلك.
وعندما حدث انقلاب الثامن من شباط 1963 الفاشي الدموي اعتقل رشدي العامل مع القسم الأعظم من الأدباء والفنانين والاعلاميين والمثقفين الذين اقتيدوا الى المعتقلات والسجون كما فصل عدد كبير من اساتذة الجامعة.
والى جانب رشدي ضمت المعتقلات والسجون آنذاك ابرز ادباء العراق ومنهم مظفر النواب والفريد سمعان وسعدي يوسف وفاضل العزاوي وجاسم المطير، وياسين النصير، وفاضل ثامر، ومحمد صالح بحر العلوم وجمعة اللامي وسعدي الحديثي وفوزي السعد وعبدالقادر العزاوي وعزيز السباهي وسامي احمد وزهير الدجيلي وهاشم صاحب وناظم السماوي ومصطفى عبود وعبدالمنعم المخزومي وسلمان حسن العقيدي ونعيم بدوي وغيرهم.
وعاد الشاعر رشدي العامل في السبعينيات ليسهم مع شعراء العراق وكتابه وفنانيه ومثقفيه في إعادة بناء الثقافة العراقية الجادة فشهدت السنوات الأولى من السبعينيات نهوضاً ثقافياً متميزاً وانتعاشاً للحركات المسرحية والسينمائية والتشكيلية، وبقي رشدي العامل يغني لشعبه وللمرأة والطفولة ولولده علي الذي كان يشغل مكانة خاصة في قلبه وضميره، حيث خصص ديواناً كاملاً، هو "حديقة علي" الذي صدر عام 1986 يحاور فيه ولده الأثير علي، الذي سبق له ان حاوره في دواوين سابقة ومنها ديوانه "هجرة الألوان" الصادر عام 1977 والذي استهله بهذا ا?مقطع الموجه الى ولده علي:
"كانت نزهة رائعة
في غابة النسيان يا ولدي
لقد عدت بشجيرة حب
زرعتها في ارض المستقبل".
وبعد صدور ديوان "حديقة علي" عام 1986 نشرتُ دراسة شاملة عن رشدي العامل تحت عنوان "قراءة في تجربة رشدي العامل الشعرية" نشرت ضمن كتابي النقدي "الصوت الآخر: الجوهر الحواري للخطاب الأدبي" الصادر عام 1992. وقد أشرت في تلك الدراسة الى ان تجربة الشاعر تشكلت من تفاعل محوري: النفس المطبوعة والتلقائية ومحور الصنعة والرغبة العقلانية والفكرية التجديدية:
"ولئن حققت تجارب الشاعر في الخمسينيات ومطلع الستينيات حالة من التوازن بين هذين المحورين –بمعطيات المرحلة- ولئن شهدت بعض تجارب الشاعر اللاحقة ميلا ولصعود محور الصنعة كما هو الحال في بعض قصائد "انتم اولا" حيث التنويع في الاصوات الشعرية وفي مستويات البناء فان قصائد الشاعر الأخيرة التي ضمها ديوانه "هجرة الألوان" وكذلك قصائد ديوانه "حديقة علي" تشير الى استسلام شبه كلي لمحور التلقائية والذات. فلم يعد المحور العقلي ـ محور الصنعة الشعرية الواعية ـ يمارس الا دورا هامشياً عابراً، اصبح مجرد ذكرى باهتة ترفد التجربة ال?عرية بحدها الأدنى من مستويات الحداثة الشعرية، وهو أمر ياخذ مساراً متجدداً في بعض التجارب الشعرية الجديدة الأخيرة التي كتبها في أواخر حياته ومنها قصيدة "الحسين يكتب قصيدته الأخيرة" التي كتبها عام 1989 و"قصائد الى مادو" المنشورة بين عامي 1987-1988 و"تقاسيم" المكتوبة بين 1983- 1988 تمثل نقلة فنية وشعرية مهمة في مسيرة الشاعر الشعرية وبشكل خاص في قصيدته المطولة "الحسين يكتب قصيدته الأخيرة" والتي وظف فيها قصيدة القناع بطريقة جديدة وحقق فيها توازناً بين الاطار التاريخي والاطار المعاصر لتجربة المناضل الشهيد في الع?اق تحت ظل النظام الدكتاتوري الفاشي آنذاك.
لقد دخل الشاعر رشدي العامل الوجدان الشعري، وكذلك الشعبي والوطني العراقي بوصفه شاعر الأمل والحياة والحب، اذ لم يفقد الأمل في انهيار صرح الدكتاتورية المخيم، وربما وصيته الأخيرة التي اودعها لدى اصدقائه مثالا حياً على ذلك:
"اذا ما سقط الطاغية
اقرعوا على قبري ثلاثاً
لأعلم ان ليل العراق الطويل قد انتهى".