ادب وفن

مقاطع من قصيدة* وردة النار في العصور/ ياسين طه حافظ

صامتةٌ صفوف النخل في المساءِ كما جيش نُزِع بأمرِ
سلاحُه. الريحُ تمرّ بصمتٍ لا تحرّكُ قشّاً ولا ثياباً. وأولاء الفقراء، كأنْ انحدروا من أور، لا يعرفون لغةً ولا طريقَ لهم غير هذا الطريق الذي غَرِقَ الآن. الفُراتُ المُعَمّر يحاول استعادة هيبتِه الغابرة، فيُجمِّعَ فلولَهُ ويهجمُ لكن تتدحرج موجاته، تتكسّرُ مثل فخار يغيّبُهُ ماردٌ في الضباب.

في الناصريةِ هَمْسٌ حذِرٌ: رجلٌ يتحرك كمن يُنجزُ أمراً، كمن سيُطلق صرخةً يستيقظ لحجمها وغرابتها الموتى ويتوقفُ النهر الطاغي. رجلٌ غامضٌ إنما لا يُفارقهُ الابتسام. ينظر للغيم والماء مطمئناً، يقول لمن حولَهُ: "صبراً. صبراً ستكونُ السماءُ أكثر وُدّاً.."
*********
في دار من طينٍ خلف هذي البيوت
السومرية، انحدر الرجل الذي نطقَ
بالبشارة.
جلس بين المنتظرين ملتفعاً بصمتِه
وفي رأسه لَمَعان.
مع ستة رجال يشبهون كهان خرجوا
عن قانون المعبد، فجلسوا مبتعدين
في حجرةٍ آخر الدار.
دارٍ في بابها
نخلة حارسة.
نخلةٌ حارسة تعرف السر
قيل عن ذلك الرجلِ الغامضِ في رأسه لَمَعان:
كان يخيط ثياباً
قيل ذاك قناع،
قيل....
في الباب نخلةٌ حارسة.
وهو في الطريق، أعطى رجلاً صادفَهُ
بذرةَ نارٍ ليزرَعها في مكانْ.
بعد وصوله، تحدّث بشيء، ومتكتمّاً
غادر غرفتَهُ. وحين وضع قدمه على العَتَبة،
التفت لصحبه، وابتسم واختفى.

*********

صامتاً كان والرعدُ فيهِ
يقاومُ حدَّ تفجرِهِ.
وهو الناحلُ يمشي
خطى الخالدين، على مَهَلٍ
وكما في الاساطيرِ،
يدخل في كهفهِ ليرى
وَرَقاً نَقَّشَتْه الأصابعُ
حرفاً فحرفاً:
هي ماكنةٌ
في الظلام تدورُ
وتعثرُ
ماكنةٌ
صعبةٌ لا تدور
وهو يستعجل صيحتَها
والحضورْ!

*********

" لا تراجع!" قال ابتدأنا،
وهو الناحلُ اختار موقفهُ
يُمسِكُ في دفة المركب المُتَحَيّر بين الصخورْ
قال، والريحُ هائجةٌ:
اعقدوا والرياحَ صداقتَكم،
هي تحمل هذي البذور
وهي تشعل في الأَجمَات اللهَبْ
اعقدوا والضفافَ صداقتَكم
وأولاءِ الذين
لهم المجدُ.
سنُكمِلهُ وهمُ معنا-
غَيرِّ اللهجة أنتَ إذا ما اتى
ذكرهم.
فهم قبلنا أوغلوا في الخنادق
وهم قبلنا أحضروا البذورْ!
....
لا تخفْ، لا تخفْ، المسيرةُ تنفضُ
من عَلِقوا صدفةً
والمسيرةُ تجتذبُ القادمينْ
أعلمُ أعلمُ فوق الحقول ضباب
ولكنه موكب غامضٌ في الضباب يسيرْ..

*********

هذي الموسيقى انطلقَتْ
من أكثر أوتار القيثاراتْ
صدأً
بدأ العالمُ يسمعُ صوتاً آخرَ في الريح:
"ستمرُّ بكم عاصفةٌ
فاحتملوها. عند الفجر ستنكسرُ.
لا تسأل فيها كيف العجلاتُ تدورْ
فخلايا النحل السرّيةِ
في المعملِ، في الدائرة المحروسة، في
الحقل النائي، في الجبل الملتفّ الأشجارِ
وفي البادية القفر وفي الاهوارْ
تُنجز أمراً صعباً،
الموسيقى انطلقتْ من كل الأوتارْ!"

*********

بين سرايا المحتشدينْ،
مرَّ ثلاثة
صنعوا رجلاً واحدْ.
رسموا للشمس تراتيلْ.
وشعاراتٍ للموكبْ
ووصايا للآتينْ.

دخلوا في الحشد ثلاثةْ
كلُّ يحملُ هالتَهُ كحواريينْ!
"انتبهوا انتبهوا، لأقول لكم:
قال الأكثر صمتاً.
هو موتٌ كبيرٌ
ونصرٌ كبيرْ
ونحن ارتضيناهما
أملاً
ومصيرْ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* ألقيت المقاطع في حفل افتتاح فعاليات الحزب الشيوعي العراقي احتفالا ً بعيده الثمانين،الذي اقيم عصر الخميس الماضي على بهو البلدية بمدينة الناصرية.