ادب وفن

السينما بين الفن والبيزنس هوليوود وهتلر.. وثقافة التكسب والدعاية في السينما .. القسم الثاني .. / عبدالله حبه

وكانت مثل هذه الصفات السبب الرئيس في تعرضه للملاحقة والحظر من قبل الرقابة الحزبية التي كانت تريد وضع جميع الفنانين في قالب واحد وإظهار المجتمع السوفيتي سعيدا ومساكنه رحبه وانيقة ومحاطة بالزهور. وهكذا رفض تاركوفسكي وزملاؤه في المعهد واكثرهم من الجنود السابقين الذين رأوا جميع فظائع الحرب في الجبهة، النزعة المحافظة السوفيتية في الفن. فهو لم يعد أبدا الفن كحرفة وكوسيلة للتسلية وكسب المال، بل يعده أداة معرفية تسمو بالإنسان فكريا وأخلاقيا. وعندما تخرج من معهد السينما في عام 1960 أنتج أول أفلامه كمخرج مستقل " طفولة ايفان" الذي صور فيه احلام الطفولة التي تدمرها وقائع الحرب. وحصل الفيلم على جائزة "الاسد الذهبي" في مهرجان البندقية السينمائي الدولي في عام 1962 وعلى جوائز في مهرجانات دولية أخرى.
مما أكسبه شهرة خارج حدود بلاده. وكان قد باشر بالتحضير لاخراج فيلم آخر هو " اندريه روبليوف" عن رسام الايقونات الروسي الشهير، وهو أحد أروع افلامه الذي كتب السيناريو له سوية مع صديقه اندريه ميخالكوف-كونتشالوفسكي. وجد الفنان تاركوفسكي صعوبات بيروقراطية كثيرة منذ البدء بإنتاج الفيلم لآن الموظفين الحزبيين وجدوا في سيناريو الفيلم تلميحات الى الواقع السوفيتي آنذاك ذات الطابع السلبي وكذلك عرض الأحداث فيه بأسلوب مبتكر غير مألوف في السينما السوفيتية . ولهذا أجريت على السيناريو والفيلم تعديلات كثيرة. وحاز الفيلم لدى عرضه في مهرجان كان على جائزة"فيبريسي".وبعد ذلك سمح بعرضه في دور السينما السوفيتية بنجاح باهر ويستمر عرضه حتى اليوم. توقف تاركوفسكي عن العمل فترة خمسة أعوام بعد رفض عدد من السيناريوهات المقدمة الى الرقابة حيث بدأت " فترة الدفء" بالانحسار. وسمح له في عام 1970 بإخراج الرواية الخيالية العلمية "سولياريس" للكاتب البولندي ستانيسلاف ليم. وسعى تاركوفسكي فيه إلى إبراز الجانب الروحي في شخصية الإنسان ، واعتماده القيم الإنسانية العامة التي لا تنسب الى قومية او طائفة دينية معينة. واستخدم في الفيلم بكثرة موسيقى باخ وتراكيب لوحات الفنانين بروغيل ورمبراندت(لاسيما في الختام  في مشهد يعكس لوحة " عودة الابن الضال" لرمبراندت). ولدى عرض الفيلم في مهرجان كان في عام 1972 حاز على الجائزة الخاصة لهيئة التحكيم. وجرى عرضه في الاتحاد السوفيتي في عام 1973 .  وأخرج في عام 1974 الفيلم " المرآة" وهو بمثابة اعترافات الفنان والذي خرج فيه تاركوفسكي عن الاطار السردي التقليدي للأحداث وقدم إلى المشاهد سلسلة من ذكريات البطل ذات السمات الفلسفية والتلميحات السياسية ( حين تهرع الأم العاملة في المطبعة ليلا في شوارع المدينة  الحالية الى مكان عملها وتقلب مسودات صفحات اعمال ستالين الكاملة للتحقق من وجود كلمة " فاحشة" سقطت سهوا ولم تصلحها، كما تراءى لها في الحلم. ولكن تبين أن لا وجود لهذه الكلمة أصلا. فيحل محل الفزع شعور من رفع عنه كابوس رهيب). وعندما بحث موضوع السماح بعرض الفيلم، قررت لجنة السينما الحكومية وسكرتارية اتحاد السينمائيين السوفيت ان الفيلم غير مفهوم ولا يصلح لعامة الجمهور وفاشل عموما. وقال تاركوفسكي عندئذ :" ان السينما هي فن قبل كل شيء ولا يجب ان تكون مفهومة أكثر من بقية الفنون... وأنا لا أرى أي مغزى في الكلام عن عدم فهمه من قبل الجمهور ... لقد ترددت اسطورة ما حول ان أعمالي صعبة المنال وغير مفهومة. وانا لا أستطيع ان اثبت نفسي كشخصية متميزة من دون تنوع الجمهور ". وسمحت السلطات بعرض الفيلم على نطاق ضيق في دار سينما واحدة بموسكو. وتحول تاركوفسكي بعد هذا إلى العمل في المسرح فأخرج " هاملت " شكسبير في مسرح لينكوم في عام 1977. وقال فيما بعد انه يحب هذه المسرحية كثيرا ويتمنى اخراجها كفيلم وفي الوقت نفسه اثنى على اخراج المسرحية من قبل المخرج السينمائي كوزينتسيف الذي يحترمه كثيرا. وفي عام 1979 أخرج رواية الخيال العلمي " ستالكر" للأخوين ستروجاتسكي. ويتناول الفيلم أزمة الحضارة التكنولوجية (الرأسمالية). وعرض الفيلم في مهرجان كان وحاز على جائزة لجنة التحكيم. وفي عام 1980 منح تاركوفسكي لقب فنان الشعب السوفيتي وسافر في العام نفسه الى  ايطاليا لأخراج فيلم " الحنين" الذي عرض في عام 1983 في مهرجان كان السينمائي الدولي، وحصل على جائزتين فيه. وبعد انتهاء المهرجان وجه الفنان رسالة الى وزير السينما السوفيتي  فيليب يرماش طالبا السماح له ولعائلته بالبقاء في ايطاليا لمدة ثلاثة اعوام حيث كان يفكر في إخراج فيلم " الانجيل الخامس" المقتبس من  رواية رودولف شنايدر. لكن الوزير عدَّّ ذلك هروبا من الاتحاد السوفيتي بعد ان كثرت حالات هروب الفنانين والكتاب من البلاد في تلك الفترة، وطلب من لجنة الحزب المركزية عدم السماح له بالبقاء في الخارج حيث يقع " تحت تأثير الايديولجيات البرجوازية". وفي النتيجة بقي تاركوفسكي في ايطاليا وحصل على الجنسية الايطالية ومن ثم الفرنسية.وكان آخر فيلم له هو " القربان" الذي اخرجه في السويد بمشاركة الفنانين السويديين. وعقب ذلك اشتد به المرض بعد اصابته بسرطان الرئتين وتوفي في باريس في عام 1986 عن عمر يناهز 54 عاما. والآن يكرم اندريه تاركوفسكي باعتباره من النوابغ الافذاذ في الفن السينمائي حيث تأسس بموسكو صندوق تاركوفسكي  وجمعية اندريه تاركوفسكي ويقام مهرجان سينمائي بإسمه وكذلك تقدم جائزة أحسن فيلم في مهرجان موسكو السينمائي الدولي. وهكذا فان روسيا كالعادة تمجد ابناءها النوابغ بعد وفاتهم كما حدث لبوشكين وليرمنتوف وماياكوفسكي ورحمانينوف.
الكسي غيرمان الأب
 
مخرج الفيلم التجريبي
 
ارتبط إبداع هذا الفنان بالمسرح، واخرج العديد من العروض المسرحية المتميزة  في مسرح توفستونوجوف في سانكت- بطرسبورغ. لكنه كان بين فترة وأخرى يدخل استديو " لينفيلم" في لينينغراد(سابقا وبطرسبورغ حاليا) ليتحف المشاهدين بأفلام لا تشبه الافلام الاخرى. ولهذا اعترضت الرقابة على فيلمه " عملية "العام الجديد" الذي أخرجه في عام 1971 لكن لم يسمح بعرضه الا في عام 1986 اي بعد مضي 15 عاما. وحالف الحظ فيلمه الثاني " عشرون يوما بدون حرب" الذي أخرجه في عام 1976. وحقق فيلمه الثالث "صديقي ايفان لابشين" نجاحا كبيرا وحاز على الجائزة الكبرى في مهرجان لوكارنو السينمائي"الفهد البرونزي". ومنحه النقاد جائزتهم في مهرجان روتردام السينمائي عن افلامه الثلاثة. والطريف ان النقاد كانوا يقفون حائرين في تقييم افلامه وما تتضمنه من افكار، فيرفضونها في البداية، ثم يكيلون اليها المديح فيما بعد حين تصل الى عقولهم قيمة الافكار الواردة فيها. إن غيرمان انتمى إلى "مدرسة لينفيلم" في الإبداع السينمائي التي تواصلت منذ الستينيات وحتى الثمانينيات. وكان غيرمان احد اركانها. وكما قال الناقد ميخائيل تروفيمنكوف فان فيلم غيرمان " خروستاليوف ، ألي بالسيارة" ترك لديه صدمة استمرت عدة ساعات حيث انه صور الواقع السوفيتي في الثلاثينيات بشكل صارخ يقارب الألم. وفعلا ان افلام غيرمان تشبه على سبيل المثال قصة " وديعة " لدوستويفسكي. فلا يمكن ان ينسى القارئ ابدا بعد مطالعتها آلام البطلة التي قادتها الى الانتحار حتى بعد مضي فترة طويلة من قراءتها. علما ان اخراج هذا الفيلم غير الطويل نسبيا استغرق 7 سنوات امتلأت خلالها غرفة عمل وشقة غيرمان بآلاف الصور الفوتوغرافية لمشاهد الفيلم بغية اختيار المشاهد المناسبة لاحقا. ولدى إخراج فيلم " صديقي ايفان لا بشين" الذي يصور حياة رجال ميليشيا المباحث في العشرينيات زار غيرمان  زوجته سفيتلانا كارماليتا مساعدته في كتابة السيناريو السجون ومعارض الجثث من أجل إعطاء صورة صادقة عن عالم الجريمة في بطرسبورغ أيامذاك.  علما ان غيرمان فنان الشعب السوفيتي كان يكتب سيناريوهات جميع افلامه، كما كتب سيناريوهات أفلام غيره من المخرجين. وحاول ان يجمع في عمله بين السينما كفن والأدب مستفيدا من تجارب الكتاب الروس العظام في رسم الشخصيات وتسلسل الأحداث. وغالبا ما كان يلجأ الى تصوير المشاهد بلونين فقط الأسود والبني بغية إظهار الحالة النفسية للبطل والبيئة التي يعيش فيها. ونظرا لخبرته المسرحية الكبيرة فقد كان بارعا أيضا في اختيار خيرة الممثلين في المسرح الروسي ليكونوا أبطال أفلامه. ولا بد من الإشارة إلى أن غيرمان استحدث قواعد خاصة به في كتابة السيناريو والإخراج  منذ فيلمه الأول "عشرون يوما بدون حرب"، وواصل تطوير هذه القواعد حتى آخر أفلامه. واعتمد فيها على ارتباط حياة الفرد بحياة مجتمعه. ومهما حاول الفرد التقوقع على ذاته فلا بد ان يصطدم بواقع مجتمعه الذي يزج به خلافا لارادته في أحداث لم يفكر أصلا في دخولها. وهنا ترتبط ذاكرة المخرج بذاكرة شعبه وتأريخه . لكنه لم يركز على حدث معين ولم يبحث عن الحقيقة في هذا التأريخ ، بل قسمها الى  حقائق متفرقة لا نهاية لها كما في الحياة الواقعية. كما انه لم يكرر نفسه أبدا وفي فيلمه الاخير " قصة مذبحة اركانارا" المقتبسة من رواية الخيال العلمي " من الصعب ان تكون إلها" للأخوين  ستروغاتسكي تجاوز هذه القواعد الى مرحلة أخرى في ابداعه . ولكن الموت عاجله بدون ان ينتقل الى قواعد جديدة في الابداع. ان غيرمان يعد بحق رائد السينما التجريبية المعاصرة في روسيا . وتدرس اعماله القليلة في معاهد السينما العالمية.
 
الكسندر سوكوروف فيلسوف السينما
 
ينتمي الكسندر سوكوروف الى معهد السينما في موسكو " فغيك"، الذي درس فيه تاركوفسكي وكونتشالوفسكي. وقد ارتبط الفنان بعلاقات وثيقة مع اندريه تاركوفسكي بالذات الذي ساعده في العمل لاحقا في استديو " لينفيلم" بعد ان رفض استديو "موسفيلم" قبوله بين مخرجيه، واتهم حتى بمعاداة الاتحاد السوفيتي. وسوكوروف ظاهرة متميزة في السينما الروسية المعاصرة اذ لم يكن يهتم في عمله الفني بالتقلبات السياسية وبمتطلبات سينما " الجمهور"، وكذلك بجني الارباح. فالسينما بالنسبة له هي فن قبل كل شيء. ويعده النقاد مثالا لالتزام الفنان برسالته سواء في إخراج الأفلام الوثائقية التي برع فيها والأفلام الروائية ام العمل في الراديو والتلفزيون.