ادب وفن

الثقافة العراقية اليوم وتحديات المجتمع / معتز عناد غزوان

لا شك أن الثقافة بمفهومها العام هي مجموعة المتغيرات المعرفية التي تشكل الفضاء المعرفي للمثقف في مدى استجابته لتلك المتغيرات والتي تدور من حوله لتكون محصلتها النهائية النتاج الثقافي أو المنجز الثقافي القابل للتداول والتأويل بين أبناء المجتمع بمختلف مدركاتهم الحسية. إننا اليوم وفي خضم التحولات السياسية المتسارعة التي تحيط ببلدنا الحبيب أصبحنا على يقين ثابت بان الثقافة العراقية باتت ثقافة مشتتة غير متجانسة بعد أن اشتبكت بمفهومي المثقف الحقيقي والمتثاقف مظهرياً بل والمتآمر على الثقافة باطنياً. من خلال تلك المعطيات التي تفرض على ارض الواقع العراقي اليوم لا سيما إبراز تلك الثقافة الوطنية التي ترمي إلى تعبئة الجماهير نحو استيعاب الواقع بمختلف تحولاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتي يكون المثقف فيها جزءا من الحل لتلك المشاكل، مما دفع إلى عزله عن الميدان الحقيقي للتوعية والتنوير، بعد أن أصبحت ثقافة العنف والاضطهاد هي السائدة اليوم على الساحة العراقية.
ولم يكتف العزل الثقافي في مؤسسات الثقافة الرسمية بحد ذاتها بل بدأ ينخر في جسد الثقافة الجامعية والمجتمعية في مختلف جوانبها الحياتية واليومية. فالشباب اليوم وهم الأمل المنشود الذين تأمل أن يكون العراق الجديد مبنياً ومتيناً بسواعدهم في بناء غد أفضل. بيد أن الأمر مختلف جداً، فالشباب الجامعي أصبح اليوم رافضاً وعازفاً عن القراءة إلا ما ندر، وهي إشكالية كبيرة نعاني منها في وسطنا الأكاديمي والجامعي. ومما يزيد الأمر انحداراً أن من يقوم بالتدريس لا سيما من حملة الشهادات العليا هم من غير المثقفين بل ممن يمكن أن نطلق عليهم بالمتعلمين، وقد انتشروا بفعل متغيرات المرحلة لا سيما بعد احتلال العراق عام 2003 والذين حشروا بطريقة بعيدة عن الانتقاء والكفاءة الى جانب إحالة الأساتذة الكبار والمشهود لهم بالثقافة والعلم إلى التقاعد لمجرد أن أصبح عمر الأستاذ 63عاماً وهو في أوج تألقه ومجده العلمي والثقافي.
ان العراق لا يحترم مثقفيه وهي مقولة نكاد أن نؤيد منطلقاتها، على العكس من مصر التي ما تزال تتحدث عن عباس محمود العقاد، والدكتور طه حسين عميد الأدب العربي، واحمد شوقي أمير الشعراء، وحسن فتحي شيخ المعماريين العرب، وأم كلثوم سيدة الغناء العربي. لاسيما أن العراق فيه رواد للعلم والثقافة العربية التي تعدت نطاق الإقليمية إلى القومية والعالمية، فقد درس كتاب "تاريخ العرب قبل الإسلام" لمؤلفه العالم الكبير الدكتور جواد علي في دول الخليج العربية وأصبح منهجاً ثابتاً فيها. وكان لعمارة الدكتور محمد مكية وجودها الحي في فن العمارة العربية والعالمية، وكان لآراء الدكتور نوري جعفر الصدى الكبير في تطور علوم النفس والاجتماع العربية، وكان للجواهري الكبير وبدر شاكر السياب الأثر الناصع في تطور الشعر العربي المعاصر بعد أن ماتوا في المنافي بعيدا عن وطنهم وفي قلوبهم أسى وحزن لفراق ارض الوطن. ومن رحل بصمت وترك إرثاً أصبح أثراً من آثار العراق الفنان الكبير جواد سليم . وأصبحت اليوم زها حديد أيقونة العمارة العالمية.
أليس العراق هو بلد الإبداع وهو الولاد لذلك الإبداع؟ إننا اليوم في معاناة من جراء اختلاط مفهوم الثقافة التي دخلت تؤطر تارة بالسياسة وتحولاتها وارتباطاتها بالسلطة وتمكنها من إدارة الثقافة وهي ابعد من ذلك بل وأصبحت وزارة الثقافة ومؤسساتها خاضعةً للمحاصصة الحزبية والطائفية.
إننا اليوم في أمس الحاجة إلى تفعيل منظمات المجتمع المدني التي تدعو إلى ثقافة عراقية مدنية تؤمن بالحرية وحقوق الإنسان في الانتماء وطرح الرأي واحترام الرأي الآخر لا الهجوم عليه ووأده. تعزيز العلاقة ما بين المثقف من جهة والمؤسسات المجتمعية والتعليمية المختلفة من خلال إقامة الندوات والحوارات ودعم الثقافة بالمال من اجل نشر النتاج الثقافي، فضلاً عن دعم المسرح وافتتاح دور السينما وقاعات العرض التشكيلية وتطوير المتاحف والكشف عن التنقيبات الأثرية الجديدة في العراق. فضلاً عن الاهتمام بالموروث العراقي بمختلف صوره ابتداءً من العمارة وانتهاءً بالأهوار التي أصبحت اليوم على لائحة التراث العالمي، لا سيما وأن لجنة الثقافة والإعلام في مجلس النواب العراقي قد خصصت الدعم ولو كان متواضعاً من اجل إنعاش الاهوار وتطويرها.
من خلال تلك الهموم فان بريق الأمل لا يزال موجوداً بوجود المثقف العراقي العضوي المرتبط بعراقة وطنه وحبه الحقيقي له.