ادب وفن

"أرجوحة" بدرية البشر. . ومدام بوفاري / مقداد مسعود

في رواية "الأرجوحة" للروائية بدرية البشر.. أكثر من مدخل لقراءة النص يمكن اعتبارها من:
* رواية الجندر من خلال تناولها ثلاث شخصيات نسوية: سلوى – مريم – عنّاب.
* يمكن تناولها من خلال التعامل الدوني مع البشرة السوداء يتجسد ذلك في شخصية عنّاب.
* التضاد الإيصالي بين المجتمع والمثقف الشاعر مشاري زوج مريم وكيفية تسقيطه شعريا وسلوكيا
*حرب المياه بسبب التصحر الجيولوجي للتربة. .
* شيعة المنطقة الشرقية وغالبية الوهابية في "مدن الملح".
* انعكاس غزو الكويت كغضب إلهي سيؤدي إلى تشدد أصولي تجسده والدة مريم.
* التشدد الأصولي وما جرى في المطعم لمشاري وزوجته مريم وثامر الشيعي وزوجته سوسن.
* حكاية سلطان العاجي الذي بتصرفاته الباذخة الثراء، لا يذكرني بغير "غاتسبي العظيم" رواية سكوت فيتزجرالد.
كل هذه العنوانات يمكن التوقف عندها نقديا. لكنني سأتوقف عند نقطتين:
* مدام بوفاري
* ثريا الرواية.
هل رواية غوستاف فلوبير هي الإطار الروائي لفضاء رواية بدرية البشر "الأرجوحة"؟ وكم نسبة التطابق بين نساء الأرجوحة وبين مدام بوفاري؟
فرواية غوستاف فلوبير "مدام بوفاري" يرد ذكرها في الصفحات التالية "18- 42- 46 - 156- 157- 158- 159".
تقرأ مريم فصلا من رواية مدام بوفاري: "راحت تقرأ كتاب، مدام بوفاري، لغوستاف فلوبير. قرأت حتى وصلت إلى مشهد الوالد وهو يودع ابنته إيما، واقفا أمام النافذة المفتوحة. يشاهد ابنته، وعريسها الطبيب بوفاري، وهما يغادران القرية ليدخلا في حياة جديدة بعيدة عن موطنها وعنه. ما بين القوسين لا يقتبس من سرديات فلوبير في روايته "مدام بوفاري" وهي من أعظم الروايات العالمية وأجمل ما كتبه فلوبير. فالسارد العليم في "الأرجوحة" يوجز لنا المرحلة الأولى من حياة الزوجين. ثم ينتقل ليصف لنا بدايات الحياة الزوجية لمريم ومشاري. فيشعر القارئ بحضور تراسل مرآوي بين نصيّ: مدام بوفاري/ الأرجوحة. أي قبل نهاية المطبوع بثلاث صفحات نقرأ السرد التالي: "وجدت مريم على لوح حامل الكتب الانكليزية رواية "مدام بوفاري". تذكرت أنها قرأت صفحات منها ونسيت أين وضعتها؟ ضاعت منها في أحداث البحث عن مشاري. كانت هذه الرواية أثيرة لديها، فسحبتها من على الحامل ودفعت ثمنها للبائعة". قراءتي الشخصية تطلق سؤالين
(1) لم يخبرنا السارد وهي تتهيأ للسفر، أنها أخذت معها رواية مدام بوفاري
(2) ولم يخبرنا أنها أضاعت الرواية في جنيف وفي هذا الضياع تورية شفيفة.
(3) لكن أخبرنا السارد أنها أشترت نسخة من مطار جنيف، ومع النسخة الثانية سيتراجع زمن الرواية إلى مرحلة دراستها الجامعية "كانت هذه الرواية ضمن مقررات الجامعة في مادة أدب ونقد التي تدرسها الأستاذة الأمريكية د. هيلين.
أراني أمام تغذية نصية بديعة: تغدية لا تخلو من نكهة الفيلسوف هيغل حين يؤكد أن التاريخ يعيد نفسه فرواية فلوبير صدرت في القرن التاسع عشر، تتناول معاناة المرأة آنذاك، والآن ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، نرى أن الموقف الرجولي الصحراوي المتخلف يعيد إنتاج مدام بوفاري بنسخة رديئة وبنكهة النفط في "مدن الملح". وتتماهى مريم في شخصية مدام بوفاري وسنعمد على تنضيد التماهي :
* تتذكر مريم كيف عاشت مع مدام بوفاري خيباتها مع زوجها البليد
* تألمت وهي تحس بروحها تلطم جدران الملل والسأم والخيبات
* استراحت وهي تقرأها فصل الحب الذي عرفته مدام بوفاري توردها وتفتحها في علاقة حبها الآثمة حين سقطت مدام بوفاري في مستنقع ديونها وتخلي عشاقها عنها
هذا التراسل المرآوي فردي تختص به مريم فقط أما زميلاتها في الكلية فقد كان لهن رأي سلفي معتم "اتفقت زميلاتها على أن مدام بوفاري وقعت في أحابيل الحب والشيطان وأن ما حدث لها كان القدر المحتوم لمن يخرج عن الخط المرسوم له، وأن مصيرها عند الله أشد وأعظم".
وعلى هذا التشدد النسوي الأصولي سيكون رد مريم النقدي كالتالي "إن مدام بوفاري لم تخطئ حين أحبت، والحب يجب ألا يقود إلى الموت أو القتل. ثم تشخص القاتل الحقيقي لمدام بوفاري: أنه الخواء في مجتمع ريفي منغلق.
"ما قتل مدام بوفاري ليس الحب بل عدم الحب، وعطش روحها التي راحت تتخبط في إدارة حياتها، وتراكم الديون، وعجز زوجها الكلي وشخصيته البائسة".
المشترك الاتصالي بين مدام بوفاري وبينهن: سلوى – عنّاب – مريم: هو الحلم الدائم بمدينة جنيف : هن حققن حلمهن وصلن جنيف واقمن فيها كسائحات متحررات من كل قيود "مدن الملح" لكن إيما بوفاري القريبة من جنيف مقارنة بهن لم تستطع تحقيق حلمها فهي لا تنتمي إلى الأثرياء الذين يكتنزون النفط ويتنعمون به. لكنها تتفوق عليهن وبشهادة مريم.. "مدام بوفاري أكثر حرية منهن، لأنها اختارت رغم بؤسها أن تحب وأن تموت". مريم تقرأ تجربتها العاطفية وتجربة عنّاب وسلوى قراءة مُبَأَرة من خلال المثال السردي الأعلى أعني شخصية إيما: مدام بوفاري: "فكرت مريم وهي تتجه نحو بوابة الطائرة أنها هي وعنّاب وسلوى وجوه أخرى، لمدام بوفاري، ضائعات في البؤس، يفتشن عن حب مرّ على قلوبهن، مس شغافهن، وترك رائحته في ثيابهن لكنه أختفى. كلهن دفن ّ حبا خذلهن. فررن من وجوه بؤسهن الزوجي الذي تحتم عليهن حمله وحدهن".
* *
ما أن نلفظها حتى تتأرجح: الأرجوحة.. وهي تكرر حركة باتجاهين متعاكسين وهي ثابتة في حركتها راسخة في مكانها تتحرك ذراعاها أما أقدامها الأربع فمقيدة بالضلع القاعدة.
أرجوحة سلوى مصادرة منها، لذا عوضتها بقوة الجين المتوارث من والديها وعلى ذمة السارد "ما كان بيدها سوى أن تحاكي والدتها لتصبح سيدة الطرفة وجامعة النكات، خصوصا أنها ورثت طرافة والدتها ونظرة والدها المتكبرة إلى الحياة، وقدر الهبوط من الأرجوحة التي سُرقت منها وهي تحلم".
هبوط سلوى من درج البيت يقابله تصاعد الذروة فيها في ذلك الفجر الشبقي وبشهادة السارد العليم "فشعرت كأن أرجوحة تهزها، فتمد قبضتها. وتمسك بحبال الأرجوحة، وتترك جسدها يغازل خدر التأرجح. شعرها يطير في الهواء. يدفئ الاهتزاز جسدها. يرشح العرق بين نهديها، ثم فخذيها، فتعض شفتيها متأوهة، مأخوذة بجمال أرجوحتها وتتمنى ألا تهبط منها أبداً. تذكرت أنها تستعير من والدتها هذا الوصف، فوالدتها أيضا ركبت أرجوحة مثل هذه وهبطت منها ذات يوم".
وهناك من تنوب عن الأرجوحة في وظيفتها: سماعة الهاتف "هذه الآلة الحميمة التي تحبها مثل الأرجوحة، ما أن تركبها حتى يغطغط قلبها بالفرح ساعات، وبالخوف ساعات. يفرز جسدها مادة الأدرينالين وينفثها في دمها كما تنفث الأفعى سمها فيدفأ جسدها وتشتاق إلى اللحظات التي يتوتر فيها جسدها ويهدأ. تحن إلى الأدرينالين وإلى سم الأفعى". والأرجوحة قد تكون بمثابة المعادل الموضوعي لذلك الفردوس الذي انتبذنا منه.
"هل تحسد الجنة حواء؟ على الأقل لا أحد يجرّك يوماً من أرجوحتك ويجعلك تهبطين منها. ميراث الهبوط من الجنة هو قدري الذي ورثته عن كل أمهاتي، بدءا من أمي حواء حتى أمي نورة بنت فهيد. قدرنا أن نركب الأرجوحة، وأن ننزل عنها قهرا. أن ندخل الجنة ثم نطرد منها".
نورة بنت فهيد والدة سلوى "ودعت أرجوحتها بعد أن ودعها زوجها".
هل امتلكت سلوى فردوس أرجوحتها، ثم أحرقها طلاق أمها من أبيها "فأحرق بناره خيوط أرجوحتها التي ما عرف قلبها وهي طفلة هناءة مثلها". طلاق سلوى جعل امها تتذكر طلاق مع والد سلوى "وحريق أرجوحتها التي هبطت منها ولم تعد إليها البتة". وسلوى كذلك تذكر والدتها "أنا أيضا في الطريق الطويل رحت أتذكر قصة أرجوحة أمي نورة". فيسألها عن سلطان العاجي وقد استعصى عليه فك الشفرة. "ما قصة الأرجوحة هذه، يبدو أنك في مزاج جيد للقصص". ليس سلوى وحدها تتذكر أرجوحة أمها مع زوجها الأول حتى ضرائر نورة بنت فهيد يحاولن ينسجن من أرجوحتها كيدهن ولكن يفشلن. "حتى وهن ينقلن إليه قصة وصفها لأرجوحتها مع ابن جلبان". والسبب ان علي بن عبهر "لا يرضى بفراقها".. لكن سلوى ابنتها لم تتعلم درس الارجوحة من تجربة أمها. "أنا الحمارة لم أتفاد ما حدث لأمي، لم أحسن الحفاظ على أرجوحتي. تغريني الأرجوحة فأركبها وأنسى نفسي. .لكن أكبر خبطة عرفتها كانت مع أرجوحتي الأولى حكاية حبي الأول، هل سمعتما برواية كهذه؟ واحدة تغازل رجلا وتتزوج أخاه. عنّاب نسَج لها عبدالله أرجوحة ً "ركبت الأرجوحة التي حلقت بها في سماء جنتها". وسيبذل عبد الله كل ما في وسعه لتبقى في أرجوحته هو. .لكن طموح عنّاب لا يستقر وستجد في سلطان العاجي ارجوحتها المثلى. "شعرت بأنها تركب الأرجوحة التي تطير الجسد عاليا فينفتح القفص الصدري، ويخرج قلبها مثل طائر يحلق في فضاء أزرق مرسوم بالغيم ومضاء بالشمس، ينفث النسيم نسماته في وجه الكون البهي.
في عالم الأرجوحة: سلوى لم تأخذ من الجامعة سوى الشهادة وستلتحق جامعيا مع صديقاتها الجامعيات "كل مساء في الخيمة الباردة في فناء صديقتها ابتسام حيث يدخنَّ الحشيش". مشكلتها اكتفاؤها "بالفرجة على عالم الآخرين من حولها".
سيرة مريم هي تجربة في حراثة الحياة سردا، حراثتها للكتب صيرتها منتبذة عن التناغم الملفق مجتمعيا، لذا فإن ملكيتها الشخصية أنها "لا تمتلك حياة سوى في عالم الكتب، تمرنت داخل لغتها وكوّنت مفاهيمها عن الحب والصدق وقيمة الإنسان وظلم النساء". وهي لم تتغرب بسبب ذلك فالاغتراب تهمة أطلقها عليها السارد العليم في قوله "ولم تنتبه أنها في غمرة انشغالها بالكتب قد فقدت شيئا من ذاتها المحلية، هناك في وسط نجد، في الرياض الساخنة، حيث تتحرك النساء في الظل بصمت وبرغبة عارمة في التخفي وفي التجمل وفي الطاعة". في مريم نواة لجيل التمرد على النسق المؤتلف، لكن وعي المؤلفة بدرية البشر تحاشى إنصافها سرديا واشتغل بإفراط سردي على شخصيتي: سلوى وعنّاب. وحدها مريم من "آمنت ذات يوم بأن للمرأة حقوقا لا تختلف عن حقوق الرجل، وأن لعقلها حقا بأن يستقل بتفكيره". ربما كان ذلك "بسبب جيناتها المسلحة برصاص العناد المسموم، الذي تراكم في عقلها فرفض أن يتبع طريقا رُسم له وكانت نسوة عائلتها قد سرن عليه طوال حياتهن".