ادب وفن

في السرد والتجييل / أحمد عواد الخزاعي

تعد ظاهرة تعدد الأجيال، سمة ملازمة للأدب العراقي، في فترة قصيرة من تاريخه الحديث، حتى أصبح الحديث عن الأجيال أمراَ ملزما لكل باحث في الأدب العراقي، وبالأخص السرد بشطريه «الرواية والقصة القصيرة»، والملفت للنظر في هذه الظاهرة الأدبية، ان عمر الجيل الأدبي الواحد لا يتعدى العقد من السنين، ولا نكاد نجد صلة كبيرة بين جيل واَخر، أي وجود قطيعة فكرية ومنهجية بين تلك الأجيال المتعاقبة، بحيث لا يتم جيل ما أنجزه الجيل الاَخر، فشكل السرد العراقي حلقات منفصلة بعضها عن بعض.. وقد عزا الدكتور عبدالاله احمد وجود هذه الظاهرة في الأدب العراقي الى عدة أسباب منها:
1- عدم التأصيل لمنهجية فكرية وأدبية رصينة من قبل كتاب السرد العراقيين الرواد.. تمكن الاجيال التي تليهم من اقتفاء اَثارهم في كتابة النصوص الأدبية.. خلاف ما حدث في مصر حين ظهر كتاب سرد أسسوا لمدارس فكرية وأساليب سردية خلقت حالة من التواصل بينهم وبين الأجيال التي تلتهم مثل «نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، احسان عبد القدوس، عباس محمود العقاد».
2- الغرور والكسل اللذان يصيبان الكاتب العراقي بعد نشر أول منجز أدبي له، مما يحول دون تواصله فكريا ومنهجيا مع الأجيال الأدبية التي سبقته.
3- وقد تحدث الدكتور علي جواد الطاهر عن سبب اّخر.. وهو خوض معظم كتاب السرد المبتدئين بالتجريب، والابتعاد عن الأسلوب الكلاسيكي في كتابة النص في بداية حياتهم الأدبية، والذي يمكنهم من التواصل مع منهجية الرواد الاوائل في السرد العراقي.
4- أضاف الكاتب السوري زكريا تامر سببا اّخر لهذه القطيعة الأدبية بين الأجيال في السرد العراقي وهو، السلطة الحاكمة على امتداد الأربعين سنة الماضية وتأثيرها على نوع وشكل ومضمون المنجز الأدبي.
وقد نجد في رأي زكريا تامر الشيء الكثير من الدقة، فقد وضعت السلطة العراقية الحاكمة آنذاك عدة بوابات سوداء في وجه أي منجز أدبي لكي يرى النور، مما أثر سلباَ على حالة التواصل الفكري والمنهجي بين الأجيال الأدبية.. لذلك نجد ان السرد الستيني العراقي في القرن الماضي، انشغل بقضايا الانسان وعلاقته مع الأنا «الذات» والاَخر، وتأثره بالمدارس الفكرية والفلسفات الغربية التي كانت تهيمن على الساحة الفكرية والاجتماعية العالمية والعراقية من «مادية ووجودية ونفسية».. اما السرد السبعيني فقد انشغل في أغلبه، بسرديات العرب الكبرى «الوحدة العربية، التنمية، القضية الفلسطينية».. ولا يخفى على أي مطلع على الأدب العراقي الحديث، بأن أدب الثمانينات بكل فنونه وأنواعه، لم يخرج عن حيز الترويج للسلطة الحاكمة آنذاك، او مواكبة الحرب العراقية الايرانية، الا ما ندر.. وفي لقاء خاص مع الروائي والقاص احمد خلف سألته عن أدب الثمانينات فأجابني «بأنه أدب غير حقيقي».. هذه القطيعة الأدبية التي تحدثت عنها، سببت اندثار مناهج فكرية واساليب سردية عراقية متفردة، ومنها ما اطلق عليه مؤسس السرد العراقي الحديث الروائي والقاص محمود احمد السيد «بالأدب الشعبي» وهو شكل اخر للأدب الواقعي الذي تأثر به هذا الكاتب، نتيجة احتكاكه المباشر بالأدب الروسي، والذي لم يجد له مصطلحا أدبيا يمكن تعريفه به فأطلق عليه «الريالزم» والذي عرفه المنفلوطي بأنه الخيال الحسي الملموس، وقد استعاض محمود احمد السيد عنه بمصطلح «الأدب الشعبي».. وعرفه في عدة مقالات نشرها في صحف عراقية نهاية العشرينات من القرن الماضي «هو الأدب الذي يكون مرآة لحياة الشعب، يعبر عن شعوره وأحلامه وأحزانه ومسراته وأماله، ويمكن أن يتحول في المستقبل إلى مصدر للمؤرخين الذين يكتبون تاريخه الصحيح، ويبحثون في كيفية الحياة التي عاشها في ذلك العصر».
وعلى الرغم من هذه المحاولة التصحيحية الجادة في السرد الواقعي العراقي، إلا إن هذا الاتجاه لم يتطور بشكل ملحوظ وبقي يعاني الكثير من الإخفاقات الكبيرة، وظهر كتاب في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي منهم انور شاؤول وجعفر الخليلي وشالوم درويش وذو النون ايوب كتبوا قصصا واقعية هزيلة لم تتمكن من مواكبة التحولات الاجتماعية والسياسية في العراق واستمروا في معالجة قضايا هامشية، وهو ما أطلق عليه الناقد ياسين النصير «الواقعية الساذجة». وتعد رواية «النخلة والجيران» لغائب طعمة فرمان والتي صدرت عام 1966 قمة ما وصل إليه الأدب الشعبي بنزعته الواقعية الشعبية، من نضوج ووضوح للرؤيا الأدبية، وتمكن للقاص من أدواته السرد، الحوار، الفكرة، الحبكة، التحليل، واتحاد بين الشكل والمضمون».. واستخدامه اللهجة الشعبية والتي تكون أقرب الى القارئ وأكثر تأثيرا به، وتماساَ مع واقعه.. لذا تعد هذه الرواية «رواية يتيمة» في السرد العراقي، لم تؤصل ولم يستثمر زخمها وحضورها، لكتابة أدب شعبي عراقي بالمعنى الصحيح، لا من قبل الكاتب نفسه، ولا من قبل الأجيال التي تلته، خلاف لما حصل مع أدب نجيب محفوظ في مصر الذي تحول الى مدرسة سردية فكرية منهجية رصينة هناك.
وهنا أود الاشارة الى مدرسة ادبية عراقية يجب تسليط الضوء عليها في الوقت الحاضر، من قبل المختصين في هذا المجال، خوفاَ من ان تعاني القطيعة والاهمال أيضا.. وهي مدرسة القاص محمد خضير «الواقع الافتراضي» أو ما يطلق عليه الواقع البديل.. فكثير من كتاب السرد الشباب لم يطلعوا على هذا الأسلوب الأدبي الرصين، ولم ينهلوا من غناه التكنيكي والفكري، ولم يحاولوا السير على خطى هذه المنهجية الأدبية، وكتابة نصوص تتماهى معها للحفاظ عليها من الاندثار.
وفي الختام أود أن أعرج على أدب ما بعد التغيير (ما بعد 9 نيسان 2003).. والذي يعد جزءا من ظاهرة القطيعة الادبية العراقية وتعدد الأجيال فيها، الا أن هذا الأدب قد امتاز عن غيره، بغزارة الانتاج، وتناوله قضايا ومواضيع كانت تمثل خطوطا حمرا في ما سبق، يمنع تدوالها او الخوض فيها، اضافة الى امتلاكه جزءا كبيرا من «الصدق والحقيقة» وغياب نظرية «موت الكاتب» فيه، كون معظم النتاجات الأدبية السردية الحالية، نجد فيها ان الكاتب يكون حاضرا، أما بصفته الصريحة المباشرة، أو متوارياَ وراء أحد أبطال نصه، من خلال أفكاره ورؤاه، ونظرته وتحليله الواقع.. لأن أدب ما بعد التغيير تناول بشكل كبير كل ما مر بتاريخ العراق الحديث، على المستوى الاجتماعي أو السياسي من «حروب واستبداد وقحط ومصادرة للحريات».. وتحدث عن المسكوت عنه لعقود بسبب سطوة السلطة.. الا ان غزارة الإنتاج الأدبي هذه، لم تشكل برأيي عاملا سلبياَ على الأدب العراقي، فالجيد سيمكث ويفرض نفسه على الجميع، والرديء سيندثر ويتلاشى ولا يعدو سوى كونه محاولة وتجربة أدبية فاشلة.