ادب وفن

قراءة نقدية في مجموعة «البئر» القصصية / د . فيصل عبد الوهاب

صدرت المجموعة القصصية "البئر" للقاص جمال نوري سنة 2000 عن "دار الشؤون الثقافية ـ بغداد" في سلسلة ثقافة ضد الحصار. تتناول القصة الأولى في المجموعة "الرائحة" موضوعا اجتماعيا استهلكه كتاب القصة العرب ولكن زاوية النظر او موقف الكاتب يختلف هذه المرة. فالكاتب يتعاطف تماما مع القاتل الذي ينتقم لشرفه من ابنته الحامل سفاحا باعتبارها المسؤولة عن ضياع ذلك الشرف ويعلل الكاتب انحراف الفتاة بغياب الرقابة العائلية عنها ويهمل المحيط الاجتماعي ولو انه يشير من طرف خفي إلى انتهاء الرقابة بغياب آخر الأخوة الذي يغادر البيت بملابسه الخاكية ويوحي بذلك إلى مسؤولية الحروب التي شغلت المنطقة عن هذه القضية.تذكرني هذه القصة بقصة نشرت في مجلة الآداب البيروتية بعنوان "مطر الليل الأسود" حيث يوظف الكاتب رمز المطر ليتعاطف مع الضحية. أما القاص في هذه المجموعة فانه لا يتعاطف مع الضحية ووظف المطر كرمز وخلفية باتجاه يبارك فيه فعل القاتل باعتباره يمثل العرف الاجتماعي ويجعله أداة للتطهير "كان المطر قاسيا ومؤلما ينثال برعونة".. ونظر من هناك إلى الظلام الحالك المترامي يغفو تحت وابل المطر الجارف”. وقد أحسن الكاتب صنعا بأن جعل الأب هو الذي يمارس فعل القتل لا الأبناء دلالة على تمسك الأب بالعرف لا الأبناء الذين ابعدوا عن ساحة الصراع. وقد استخدم الكاتب رمز الرائحة كمرادف للفعل الاجتماعي القبيح الذي يتخلص منه القاتل إلى الأبد.
ولكن هل أن القاتل قد تخلص منه حقا؟ لا أظن فمسؤولية القاتل بينة مثلما هي مسؤولية المجتمع وأولها المسؤولية السياسية.
في قصة "البئر" يستخدم القاص تقنية "القصة داخل القصة" أو ما يسمى بتقنية تداخل الإطارات السردية. وقد وظف القاص هذه التقنية ببراعة سيطر فيها على تعدد الرواة في القصة، إلا أن النهاية بدت غير واقعية أو معقولة حيث لا يعقل أن تكمل العجوز سرد الحكاية بعد أن أدركت نوم المستمع إليها وكان يمكن ان ينهي القاص قصته بحذف السطرين الأخيرين من القصة.أما عنوان القصة الثانية "نافذة بسعة الألم" فانه يتناصّ مع عنوان قصة عبد الخالق الركابي "نافذة بسعة الحلم" ويبدو الراوي فيها متفائلا على الرغم من الآلام المبرحة ومشاعر العشاق المحبطة.
أما في قصة "فنجان قهوة" فان الراوي يكون متشائما وتكمن براعة القاص في المزاوجة بين قراءة الفنجان واللوحة المؤطرة خلف الراوي وقارئة الفنجان.
وفي قصة "طفولة أخرى" يتناغم القاص مع مقولة أن الإنسان يرجع طفلا في كهولته كي يتخلص من القيود الاجتماعية والمسؤوليات الثقيلة التي تنتظره كل يوم وذلك من خلال القيام بسفرة مع التلاميذ إلى مدينة الألعاب.أما نص “مسلة العلب” فانه اقرب إلى المقالة منه إلى القصة وحسنا فعل القاص بتسميته بالنص.
ويمضي بنا القاص إلى قصة "المسدس" بحبكتها البوليسية وقد نجح في خلق قصة بوليسية بصفحتين فقط!
وقد اخفق القاص بتكوين حبكة مقنعة لشخصياته في قصة "تصويب" التي تجري أحداثها في الحافلة دون أن يعطي نهاية فنية لها. أما قصة "أحلام الظل" فهي قصة ممتعة بلا شك وكان من الأجدر بالقاص أن يضع فواصل معينة عندما تتبدل زاوية السرد من المرأة إلى الرجل وبالعكس. وكانت نهاية القصة موحية بما يكفي لمعرفة نهاية مشروع الزواج بين الرجل والمرأة اللذين تعديا السن المعتادة للزواج ودخلا بما يسمى بخريف العمر. وفي القصة الأخيرة من قصص المجموعة “صور” يخرج القاص بين مستويين من مستويات السرد في أربع صور متلاحقة، ، المستوى الأول هو ما يسمى بـ "سرد عين الكاميرا" أو السرد الموضوعي والمستوى الثاني هو سرد الشخص الأول أو السرد الذاتي.
ويوظف القاص هذين المستويين مع مستوى ثالث هو طبيعة العلاقة بين الناس والأشياء من جهة والكاميرا الحقيقية في يد المصور من جهة أخرى، ولكن القاص يخفق في إيجاد رموز متسقة بين هذه الصور بما يكفي لإبداع قصة منسجمة. إن هذه المجموعة القصصية تشكل تطورا نوعيا في مسيرة القاص اشتملت على الكثير من العناصر الإبداعية على الرغم من مواطن الإخفاق في بعضها وتلك مسألة طبيعية في سعي الإنسان الدائم لبلوغ مرحلة التكامل.