ادب وفن

النافخ في البوقات/ حميد حسن جعفر

هل من الممكن أن يقول قائل، قارئ، متابع، ناقد، مثقف، قريب من حركة الشعر في العراق عامة، وفي جغرافية الجنوب، البصرة خاصة، أن يقول عن مقداد مسعود انه كائن حالم، أو رجل شاعر؟ أم سيقول انه المعتزلي الأخير؟ أو انه المخلوق الانساني الباحث عن اللاواقع في الواقع، وعن الاستثناء في القاعدة، وعن الموضوعي في الذاتي؟ الباحث عما لم يقل؟
عندما يكتب لا يبحث عن أرض ليسقط عليها جثة، أو على أديمها ظلالا. فهو في هبوط، صعود حر، حيث المجهول الذي يدور بين يديه وفي فلكه.
قارئ "مقداد مسعود" لا بد له من أن يحمل حيرته معه، فهو – الشاعر – ممن لا يقر لهم قرار، فالقناعات لا يمكن أن تجد لها موضع قدم في خندق الشاعر المفتوح على أرض الشعر.
القلق الذي يشكل معظم مفاصله – والذي لن يظهر على السطح لأنه اتخذ من لجة القصيدة مركزا له – لن يمنحه هذا القلق سوى الهمّ الهائل من البحث عن المختلف، لا ضمن حركة الآخرين فحسب، بل مع نفسه، ومع ما يكتب من قصائد ونقود ومتابعات وقراءات. فهو مسكون بالوسواس الذي اسمه في القدامة شيطان الشعر، وهو مسكون بأرض واسعة أسماها الأوائل أرض عبقر. وكذلك مسكون بتاريخ طويل عريض من التناقضات التي طالما مرّ عليها الكثيرون من أفراد زمرته مرور الكرام. ليتكفل هو بحمل صليبه مجرجراً – على طريق الجلجلة – طريق الرفض والالتزام – من ورائه حشدا من ملائكة الشعر، أعني الشعراء.
***
هل أقول إن مقداد مسعود كائن شعري متشكل عبر كتب شعرية عديدة وكتب نقدية؟ ومع هذه وتلك العديد من الخيارات، بدءاً بالقراءات والمعارف وليس انتهاء بالوعي والالتزام على المستوى الفكري والسياسي فهو منشغل ومشغول بكل الأشياء. كل الأشياء تأسره، تغويه، تفتنه، تطلق مجساتها باتجاهه، أو بالاتجاهات المتعددة التي من الممكن أن يكون في أحدها، محاولة إثارة مخاوفه وقلقه مرة، واهتماماته مرة أخرى. لذلك على القارئ والمتابع أن لا يتوقع منه شيئا من المتعارف عليه أو أشياء من المتوقعات، التي تحفل بها أذهان الكثير من القراء والمتلقين، اذا ما علم هذا القارئ أو ذاك أن المتلقين مازالوا وضمن الكثير من اهتماماتهم يقفون تحت سلطة الشفاهية مرة وتحت سلطة القراءات الأولية مرات متعددة، تلك التي لا يمكن أن تنتج وضعا قلقا أو حيرة لا يتفاداها المتلقي إلا عبر إطلاق أسئلته، أو عبر تفكيك المغاليق.
فالقارئ هذا وذاك مازال ينتظر المعرفة عن طريق الشرح والتفسير، عن طريق الحنجرة، السمع وليس عن طريق العين، القراءة.
المدونات مازالت – بالنسبة للمتلقي الشفاهي – تشكل مضيعة للوقت والجهد، فالحنجرة والصوت تشكلان أكثر من مصدر للمعرفة والتذوق والتزود بالخبرات لا لأنها أكثر بلاغة، بل لأنها أكثر مباشرة ووضوحا، وأسهل استقبالا وأضمن فهما. فالمنتج للصورة – وكثيرا ما تكون منتمية للإعلان أو الاعلام – لا يحفل بالمضمون، فهي أما أن تكون ذات مضمون مباشر أو ذات دعوة إلى إثارة الأحاسيس والكوامن. وعبر مفاصل كهذه يظل القارئ باحثا عن الاطمئنان، لا عن الحيرة. وكثيرا ما تكون الصورة منتجا مجانيا، من غير مقابل من ناحية النقد، المال، ومن غير الكثير من الجهد. فما من متابعة، وما من جهد مبذول، أو استرجاع، أو محاولة فتح المغاليق. أمام وقائع كهذا واحتمالات واختيارات يقف الشاعر خاصة والأديب عامة ومعه القارئ الكلاسيكي أو المعاصر ومن يبحث عن القدامة، التراث والحداثة، المعاصرة من جهة أخرى ليبحث الجميع فيما بينهم مع معارف وأفكار ومدارك. فمن الأمور التي لا يمكن أن يتنازل عنها الفعل الشعري لدى مقداد مسعود هو قلق القراءة والكتابة. هذا القلق الذي من الممكن أن يحول الشاعر الى ثائر والقارئ الى ثوري والنص الى دعوة للمغايرة والتحول وان تنتمي العملية الشعرية الى الاختلاف.
فالمجتمعات التي تشكل الثقافة فضاءً – حقوقا وواجبات – متنفساً للأفراد والجماعات، وتشكل المحيط الذي تسبح وسط الكائنات البشرية. مجتمعات كهذه لابد لها من امتلاك القدرة على صناعة المثقف المنتج، المثقف الفاعل، والذي بدوره سيكون مطالبا الشاعر بعدم التخلي عن مبدأ الابتكار والبحث والكشف وتلمس ما تخبئ العتمة والذي تشكل المغامرة مفصلا مهما من مفاصله.
الشاعر المبدع الذي يسكن مقداد مسعود من الجائز أن نقول انه ينتمي في الكثير من الأحايين الى نموذج مجتمعي كهذا ، أو الى زمرة تنتمي الى مفصل مجتمعي كهذا يتمتع بهذه المواصفات.
***
قارئ مقداد مسعود – وكما يروم الشاعر – قارئ لم يعلن عن مواصفاته. فهو يقف خارج تحجيم كهذا أو عنونة.
فالقارئ عامة – والقارئ الذي يصاحب الشاعر في مغامراته لا يمكن أن يقف تحت مظلة ما.. حاله حال القراءة ذاتها المنشغلة بالإنسان والإبداع، وما يتلبسها من حالات الاختلاف والبحث عن المنتج الإبداعي القادر لا على الإقناع – إقناع القارئ بقدر ما يستطيع أن يوفر للقارئ شيئاً من المغايرة. فالعالم، الأرض، ومنذ بداياته الأولى وحتى بدايات الألفية الثالثة، منذ تشكيلاته الأولية وحتى يومنا هذا لم يكن مرتكزا في وجوده على أرضية الهدوء والسكونية بقدر ارتكازه على قرن الثور كما تقول الميثولوجيات والمعتقدات الجمعية، وبالتالي فهو يدور ضمن سنن صناعة عدم الاطمئنان، فالهاوية، الفراغ هي كل ما يحيط به، الأرض – العالم.
كذلك هي الحال مع الشاعر مقداد مسعود السابح في بحيرة الوساوس، الخائف حد الفزع من سلطة التكرار – على المستوى الشخصي أو الجماعة. الخائف من التوقف عن الكتابة المتحركة، الخائف من السقوط في التماثل والتشابه.
فالكتابة بالنسبة اليه غير مأمونة الجانب، وعليه أن يشاغلها، أن يديمها الكاتب، الشاعر عبر المغايرة. ومن مشاغلة كهذه فسوف تجهز على كاتبها بالكثير من القسوة والإهمال وكذلك الحال مع القارئ المعرفي الذي لا يميل الى عملية ازدراد لقمة القراءة من غير أن يشعر بنكهة ما، نكهة مكونات النص الشعري. فما ان يرخي النص حتى يشد القارئ والعكس كذلك. فالعلاقة متبادلة، وتكافلية، وتكاملية، ما بين النص المنتج، المغلق ومفاتيح القارئ الذي يشتغل على أكثر من قراءة ممكنة، وبالتالي فهو غير معني بالقراءة السهلة، وغير معني بالكتابة المنتمية الى الرسائل المعنونة.
***
الكثير من الشعراء والكتاب كذلك يبحثون عما يطلق عليه الكثير من العامة مفهوم الحقائق، وقد يسميها البعض الحقائق المفترضة.
هل من الممكن أن نسميها الحقائق، الأوهام، التي تشكل المعادل الموضوعي للحدث. مدن الفلاسفة الفاضلة، أو مدن اللامكان، اليوتوبيات.
مقداد مسعود لا يبحث عن مدن الآخرين رغم أهميتها في صناعة القارئ، الموالي للشاعر ضمن شيء من العمى.
مقداد مسعود يبحث عن مدينته هو، التي شيدها بمساعدة قارئ من أشباح الشاعر نفسه، وأضاع الاثنان – القارئ والشاعر – الطريق الموصل اليها.
مدن وجغرافيات مقداد مسعود مدن تنتمي الى مفصل مستل وبصعوبة من اللاواقع، وليس المدن المنتمية الى الحقائق، الأوهام، بل المنتمية الى الوعي والفكر والمعرفة والالتزام حيث سوف تكون لهذه المفاصل اليد الطولى في توفير مواد بناء تلك المدن التي تقدمها كتابات مقداد مسعود للفعل القراءاتي.
القارئ الاعتيادي والقراءة الأولية، أو المتعارف عليها، قد يقف الانسان القارئ والقراءة ضمن حالة من الارتباك، ضمن مواجهتهما للمنتج الإبداعي، الشاعر. وقد يمتلك هذا القارئ أو ذاك البعض من التصورات المسبقة حول هذه الكتابة، المدونة أو تلك، وقد يمتلك بعض الأحكام المسبقة التي قد يستقبلها من قراءات لشاعر آخر. وهذه التصورات والأحكام من الممكن أن تشكل مصدرا للخيبة، خيبة القارئ البريء الطيب بما يستقبل مما يكتب مقداد مسعود لذلك على قارئ كهذا أن يتخلى عن مستوى القراءة التي اعتمدها عند استقباله للفعل الكتابي للآخرين محاولا أن يضع أصابعه العشرة على مسالكه وطرقات متماهية خلف سواها.. قد تتخذ منها القصائد وسائط للكتابة من غير تحديد أهداف الوصول. فالقصيدة المعاصرة، الحديثة التي يكتبها مقداد مسعود وسواه من الشعراء المبدعين قصيدة غير محكومة بالوصول الى قارئ ذي مواصفات خاصة.. غير محكومة بعنوانات المرسل اليهم، بل حتى القصائد التي يكتبها مقداد مسعود والمحكومة بالمهدى اليه، الاهداءات كثيرا ما تتجاوز صاحب الرسالة، العنوان وقوة العنوان المثبت في أعلى النص الشعري وصولا الى الحشد، مجموعة القراء.
فالقصيدة الحديثة نص منفتح غير معنون، نص يبحث عن القارئ المختلف لا عن القارئ المعرفة.
ولأن مقداد مسعود غير منضوٍ تحت راية تمتلك سلطة النسق المطلق، النسق الشاطب، بل ولأن راية المعرفة والوعي والإحساس بالمغايرة تشكل الكثير من المسقفات التي تظلله بالشجاعة وبصناعة الخروق في جدران الكتابة، اضافة الى أن الشاعر الذي يحتل تصورات الكائن الملتزم فكريا لم يكن خاضعا لقانون غير إبداعي، فالوقوف خارج القوانين الساكنة، الخاملة، لم يكن – وقوف كهذا– من طموحات الشاعر، بل أن قانون اللا قانون والذي أطلق عليه القانون الذهبي والذي اتخذ منه الخمسينيون – رواد قصيدة التفعيلة – أو قصيدة العمود المطور – كما أطلق عليها – الدكتور عبد الواحد لؤلؤة – وسيلة لتجاوز الثوابت والميكانيكيات التي يعتمدها العمود الشعري، ولكي يتمكنوا بالتالي من إعادة مادة الشعر الى مياهها العذبة، متجاوزين بعض مفاصل تراث عمرها أكثر من خمسة عشر قرناً.
وقانون اللا قانون يكاد شكل العتبة التي ومن خلالها تمكن المبدعون من تدمير السكونية التراتبية للقصيدة العربية العمودية.
***
مبدأ "اللاقانون" القانون الذهبي لا يمكن أن ينتمي إلى التحجيم أو التحجر، بل إن المغايرة تشكل أكثر من ملمح إبداعي تمكن الشاعر والقصيدة من أن يخترقا حاجز الثوابت التي شوهت وقبحت جسد القصيدة الكلاسيكية. بل وسلبت الكثير من القصائد والكثير من الشعراء جماليات القول وتحولاته. وكما كان مقداد مسعود وفيا لتجربته الخاصة، تلك التي تنتمي الى الوعي المنفتح على الآخر وكذلك الى البنية الشعرية التي تعتمد المجاورة للحقول الإبداعية الأخرى. بل إن المغامرة – وبعيدا عن المجازفة – المستندة على الكثير من القصدية والى الكثير من الذهنية المتوقدة والمخطط لها – إذ ان مواصفات كهذه هي الفضاء الأكثر صحة لنمو الكائنات التعددية المراد منها أن تكون في الطليعة عبر اعتمادها على تراتبها في الاقتراب من هموم التحولات على مستوى الكتابة والقراءة، وعلى مستوى الوعي والفكر والالتزام.
***
إن الثقافة والتداخل الاجناسي استطاعا أن يدمرا مبدأ الوراثة، مبدأ الاشتغال الميكانيكي عبر الانتقالات من الآباء الى الأبناء وبالتالي أدت هذه التجاوزات - إلغاء بعض مفاصل قانون الوراثة – الى ظهور أقوام وشعوب وأجناس بشرية – بل وحتى حيوانية ونباتية – تختلف عن الإسلاف. بل إن البعض ما عاد يمتلك القدرة على إثبات مرجعياته الأبوية الى أقوام خرج هو من أصلابهم.
كذلك الحال مع الأجناس الأدبية والإبداعات الفنية التي بدأت تمتلك الكثير من الجينات المختلفة التي تثبت عدم انتمائها إلى عنصر سابق محدد، بقدر قدرتها على إثبات انتمائها الى اللاحق.