ادب وفن

"ما لم تمسسه النار".. البحث عن بطل / داود سلمان الشويلي

إذا كان الراوي في ثلاثية الركابي "الراووق" يبحث عن مخطوط معين، ففي روايته هذه "ما لم تمسسه النار" كان يبحث عن بطل لروايته "انها أول مرة في تاريخ الرواية يبحث فيها روائي عن بطل روايته بعد ضياعه مرتين: مرة على شكل دفتر انتهى الى مصير مجهول, واخرى على شكل مجنون هارب من المستشفى".
وكانت ثيمة "البحث" هذه قد أوصلته الى العثور على الدفتر، والبطل كذلك: "كان العثور على الدفتر – الدفتر المشؤوم كما كان يسميه نديم- ايذانا بالشروع في كتابة هذه الرواية".
إن ثيمة الهروب تقابلها ثيمة البحث، فقد هرب " نديم " من المستشفى، وبحث عنه الراوي فوجده، ان كان في الدفتر المحروق، او هو ذاته، وهذا ما يشبه ثيمة البحث عن سجل " الراووق " في ثلاثية الراووق، فعندما وجده الراوي اكمل الكتابة فيه، وكذلك في " ما لم تمسسه النار " حيث وجد فصلا واحدا من دفتر محروق واكمل فيه قصة حياة " نديم ".
إذن، الرواية تعتمد على نص اصلي مفقود وبعد العثور عليه يكون هو الاساس في كتابة النص الجديد الذي اسميناه رواية.
***
"بدرة" المدينة الحقيقية في الواقع وعلى الخريطة الجغرافية، وهي "مدينة الاسلاف"، و"مدينة الحروف والكلمات" والتي قدمها الركابي مرة اخرى باسمها الحقيقي في روايته "ما لم تمسسه النار"، ويسميها "حكمت" احد شخوص الرواية، بإسم " فردوسك الارضي "عندما خاطب "نديم" الخارج من المستشفى.
"بدرة" الموطن الاصلي للكاتب التي انتُقد على اختيارها في رواية "ليل علي بابا الحزين" لتكون ملجأ له ولعائلته اثناء العدوان على العراق عام 1991، ويختارها في رواية "ما لم تمسسه النار" ملاذا آمنا كذلك إذ يقول" وهكذا لم اجد مفرا من ان اهرب بأسرتي الى المدينة التي ولدت فيها : مدينة بدرة القريبة من الحدود الايرانية حيث بت اصحو، فجر كل يوم، على صدح البلابل وهديل الحمام لا على دوي الطائرات المغيرة". ويتم فيها اكتشاف حياة "نديم" الذي سيبني روايته على ما ابقته النيران من دفتر دون فيه قصة حياته، وانتشله من السنة النيران صديقه عيسى "انه دفتر قديم، متسخ وملوث بالرماد، يبدو وكأن النار شبت في أطرافه، فلوت أوراقه وجعدتها بعد إن أجهزت على العديد منها". ولولا العثور على هذا الدفتر لما حصلنا على رواية مثل رواية " ما لم تمسسه النار "كان العثور على الدفتر – الدفتر المشؤوم كما كان يسميه نديم- ايذانا بالشروع في كتابة هذه الرواية".
كتب الروائي الركابي على جدار صفحته في الفيسبوك قائلا: "من المعروف أن مدينتي بدرة المتاخمة لجبال زاغروس الإيرانية كانت، في طفولتي وصباي، معزولة عن الدنيا، لا توجد طرق إسفلتية تربطها بغيرها من المدن العراقية. وكان الوصول إلى أقرب مدينة مثل الكوت أو بغداد يعتمد على مهارة سائق السيارة وفطنته في معرفة طوبوغرافية الصحراء الشاسعة. وقد حدث أن ضلت أكثر من سيارة سبيلها، ولم يعثر عليها إلا بعد مرور أسابيع أو أشهر تحوّل خلالها المسافرون المنكودون إلى جثث أجهزت الذئاب عليها؛ لذلك كنت أشارك الركاب الآخرين هلعهم طالما تشق إحدى السيارة بنا سبيلها المبهم عبر الصحراء، ولم يكن يهدأ لي بال إلا حينما يلوح لنا الطريق الإسفلتي؛ حينها أشارك الآخرين في إطلاق صرخة ابتهاج مردداً معهم بصوت واحد:
- الحمد لله.. راح نصعد التبليط!
والآن وبعد مرور كل هذه السنوات واستقراري النهائي في بغداد أتمثّل بذلك الزمان كلما شرعت في كتابة رواية جديدة؛ أظل أعاني شهوراً قبل أن تسلس الأحداث لي قيادها إذ حينها أطلق في مكتبتي صرخة ابتهاج يجيب عليها من الصالة من معي من أفراد أسرتي:
- ها.. بشّرْ.. صعدت التبليط؟
و"بدرة" هذه المدينة الحقيقية قدمها الروائي في "ما لم تمسسه النار" وقد تداخل الواقع والخيال في وصفها.
"لقد سعدت كثيرا بتمضية بعض الوقت في بدرة، حالما بمعاودة التجوال في تلك البساتين التي سبق لها أن سحرتهن بكل شيء ولاسيما انها وفرت لهن شتى صنوف الفاكهة وفي مقدمتها ثمار الرمان الناضجة المدلاة من اغصانها. "ص32
لقد عاد اليها لاجئا بسبب اندلاع " عاصفة الصحراء".
اذن تلتقي هذه الرواية مع رواية "ليل علي بابا الحزين" في هذه الموضوعة المكانية.
***
"لم يكن الماً ذلك الذي احس به. . لا لم يكن الماً، بل كان سحقاً لكل وجوده. كان، وهو يرتج على الطاولة بكل جسده، يسمع صوتاً حيوانياً – ادهشه أنه صوته – يملأ عليه سمعه اقرب ما يكون الى عويل.
كان يصرخ لا بفمه وحده، بل بكل كيانه.
ما الذي يحصل ؟ اين هو على وجه التحديد"؟
اختار الروائي هذه العبارة ووضعها على الغلاف الثاني لروايته لما تحمله هذه العبارة من فكرة بنيت عليها الرواية.
الصرع، الم في المفاصل، النسيان، التشنجات، حالة الشلل التخشبي،الوسواس القهري، هي امراض نفسية مصدرها اضطراب نفسي وحسي وخلل في السلوك، تتطلب الرقود في مستشفى الرشاد في الشماعية، وكذلك تتطلب العلاج بالصدمات الكهربائية، فهل كان الركابي يشير بذلك الى بعض ابناء الشعب العراقي وهم يسرقون وينهبون الدوائر والمؤسسات العامة، لما اصابهم من خلل في السلوك، واضطراب نفسي وحسي؟ بسبب الحروب والعدوان المدمر لبلدهم، او كما قال عيسى :"فالشماعية امتدت وستمتد اكثر وأكثر لتسع كل شيء. .. كل شيء"؟
ان الكثير من الحوادث الرامزة الى مثل هذا السلوك مبثوثة في الرواية، على الرغم من ان الكاتب لا يريد من روايته هذه ان تكون كذلك، ولا ينبغي لها ان تكون، الا ان الحوادث قد تقع رغما على انوفنا و انف الكاتب.
ان مخيال الروائي السردي حتم عليه تقديم ذلك، وهذا جزء من الابداع السردي للركابي الذي قدم للمتلقين ما قرأه في الواقع العياني الذي يحدث امام عينيه، فقدم رواية " ما لم تمسسه النار "، و قدم الجنون على المستوى الحقيقي والمجازي.
***
من الامور التي تطرحها الرواية هي موضوعة دور المثقف والحكم "السلطة"، إذ نجد المثقفين الذين هم خارج السلطة مثقفين فقراء مادياً، مما تدفعهم الحاجة الى بيع كتبهم في شارع المتنبي من خلال " بسطة المثقفين " ، على رصيف الشارع.
هذه الثيمة عالجها الروائي سرديا بالاشارة إليها بتوجع وألم "فكاهي"، الا انه لم يطل الحديث عنها، ذلك لأنه كان مهتما بالموضوع الاساس للرواية، وهو كتابة سيرة ذاتية لنديم.
يذكر الركابي شخصية أبي ربيع نعيم الشطري المعروفة، وكذلك الراوي، إذ يقول زاهد عندما يلمح الراوي داخلا المقهى "مثقل الذراعين بكيسين بلاستيكيين متخمين بالكتب - ها هي "بسطة المثقفين " تعلن ولادتها على رصيف شارع المتنبي"!
- بسطة شعارها : الدين ممنوع، والعتب مرفوع !
ومن هذا المنطلق يمكن القول ان الروائي الركابي ينطلق من الواقع الحقيقي الى الواقع السردي، بترك المخيال السردي عنده ليقول كلمته، وقد قالها في رواية " ما لم تمسسه النار".
***
للمكان والزمان دور كبير في منح الشخص هويته الوطنية، و" ما لم تمسسه النار" كما اغلب روايات الركابي، تعلن بدون ان تشير الى ذلك عن هوية شخوصه المركزية، وهي الهوية الوطنية من خلال الارض التي ينتمون اليها، والزمان الذي يعيشون فيه كذلك، زمان العدوان على العراق / الوطن الكبير.
فعودة الشخصية الرئيسة إلى مدينة " بدرة " هو بحد ذات ترميز ضمني لما تحمله هذه المدينة لهذه الشخصية من رمز كبير لها في انها المكان الآمن من عاديات الزمن.
وعودته كذلك الى هذه المدينة " مدينة الاسلاف " التي سماها في رواية اخرى هو ترميز للزمن، إذ ان الزمن هو استمرارية هذا السلف في التوالد والعيش والسكن في مكان واحد.
إذن، المكان والزمان يشيران الى الهوية الوطنية لشخوص الرواية، حتى فترة دخول" نديم " الى مستشفى الرشاد هو ترميز لوطنيته على الرغم من انه من اصول عثمانية، الا انه لم يخرج من حدود الوطن الام " العراق ".
ان الرواية، هذه وكل الروايات التي كتبها الركابي،هي تأكيد على وطنية شخوصها، انها متجذرة في المكان والزمان، والوطنية سمة يجب ان يظهرها الروائي لشخصياته الروائية كالروايات العالمية، مثل روايات ماركيز وقريته الصغيرة"أراكاتاكا"، وروايات فوكنر عن الجنوب الامريكي، وغيرها من الروايات العالمية، فكان ان اعلن المكان والزمان الهوية العراقية لشخوص رواية " ما لم تمسسه النار "، فكانت الرواية عراقية ولا ضير في ذلك، لان العالمية بمعناها الدقيق هي الانطلاق من المحلية، وهذه الرواية بحق رواية عالمية تنطلق من المحلية العراقية، وتمتثل لشروط الرواية الناضجة.
***
كتبت هذه الملاحظات بعد القراءة الاولى لرواية "ما لم تمسسه النار" للروائي عبد الخالق الركابي، والتي تطرح جملة من الموضوعات التي نعيشها الآن، منها: وطنية الشخوص، المكان الآمن، مكان الاسلاف، زمان العدوان، محنة المثقفين، الجنون، ان كان حقيقياً ام مجازياً، لما اصاب بعض العراقيين عند العدوان على شعب وارض العراق، ثيمة الهروب وثيمة البحث، وهذه الموضوعات قد تناولتها معظم رواياته السابقة، وهذا لا يعني ان الركابي يعيد تلك الموضوعات بسهولة ويسر، وانما ما نعنيه من ذلك هو الابداع السردي في كل رواية من رواياته وهو يقدم هذه الموضوعات.
فمدينة "بدرة" كانت مكان اغلب رواياته، الا انها لم تكن في الوصف متشابهة، فقد عمل فيها المخيال السردي للروائي فعله بين رواية واخرى، وكذلك يمكن القول عن ثيمتي "الهروب والبحث"، وغيرها من الموضوعات الاخرى.
بين عبارة نيتشه التي صدرنا بها هذه الدراسة وبين العبارة التالية للروائي "جان ماري غوستاف لوكليزيو" عن الرواية وشيجة قوية، إذ يقول: "السمة الأساسية للرواية هي أنّها غير قابلة للتصنيف في اشتغال محدّد لأنّها تتناول كلّ شيء يمكن تصوّره، وبكلماتٍ أخرى أرى أنّ الرواية هي شكل أدبي يتشكّل من خلطة مشتبكة من الأنواع الأدبية كلها وأراها أقرب إلى كتلة مختمرة من الأفكار وهي في النهاية انعكاس لعالمنا الذي تتصارع فيه أقطاب متعددة و متنافرة".
لقد كتب الركابي هذه الرواية بمهارة الروائي المتمرس وقدراته العالية، وخبراته في كتابة نص روائي قدير يمتثل لشروط الرواية العالمية والمحلية.