ادب وفن

الحلم الذي اثقل كاهلي! (2) / مزهر بن مدلول

كنت احملق في الوجوه التي اكتظت بها الدربونة، لعلّ معجزة تحدث وأرى وجه أمي. لابدّ انها حلمت بهذه اللحظة وانتظرتها قبل أن يقتلها النحيب!.
حبست دموعي في أول الأمر، لكنّها انهمرت حالما سمعت صوت خالتي وهي تناديني بأسمي، بأسمائي القديمة كلها، فذاكرتها ما زالت طرية بالرغم من مرور ربع قرن على ذلك.
احاطني أهلي بالزغاريد والهلاهل، وغمروني بكثير من الحنان والعناقات، فكانت تلك الليلة من الليالي القليلة التي فاضت فيها سعادتي!.
كان رأسي يدور، ومن فرط دهشتي، لم اعد اعرف، أنا الذي عدت، ام انّ الزمن هو الذي عاد!؟. لو كانت أمي حاضرة الآن، لشعرت فعلا بأني ولدت للتو مكتملا!. لو كان خالي عودة على قيد الحياة، لقبلت جبينه واعترفت بجميله. سألت خالتي عن سبب وفاته ومتى، فتحسرت وبكت، قالت: لقد ظلّ الفقر يلاحقه حتى اخر نبضة!.
تناهت الى مسامعي أصوات رصاص تأتي من مسافة بعيدة، وبعدها دوى انفجار في أطراف المدينة، فقالوا: (انّ جنود الاحتلال يطلقون النار في الظلام)!. لم يندهش أحد، واستمر الشباب بالغناء والعزف على الطناجر على الرغم من تحذير الكبار، بأنّ الغناء في هذه الايام يقود الى الفواحش!.
تمتمت بما قالوه: (جنود الاحتلال يطلقون النار في الظلام). ارض الوطن تدوسها بساطيل الاجانب!. لكن ما معنى الوطن!؟. هل الوطن هو الذي تقوّس ظهره من كثرة الطاعة والأنحناءات، أم تراه هذا الذي يمشي بحذاء مثقوب ويلفّ رأسه بالضمادات كأنه جندي عائد من معركة فاشلة!؟.
غادرني النعاس هذه الليلة، وكنت مستعدا لأن أبقَ متيقظا حتى صباح الغد، وعندما تفرق الجميع، ووضعت رأسي على الوسادة، تواردت الى خاطري الكثير من الوجوه والأمكنة التي تركت اثرا في روحي، منذ ذاكرتي الأولى وحتى اليوم الذي غادرت فيه الناصرية. فعزمت على أن لا أترك معلما الاّ وذهبت إليه، ولم أترك صديقا الاّ وسمعت أخباره، وكان لوجه أمي بتجاعيده و وقاره الحصة الأكبر في هذه الصور والذكريات!.