ادب وفن

"انتظار السمرمر" محكيات يطرحها المقهى الثقافي على طاولة البحث والحوار والتوصيف

طريق الشعب – لندن(خاص)
فيصل لعيبي – مساء الخير ..اهلا وسهلا بكم..وعيدكم مبارك وايامكم سعيدة..الأمسية اليوم عن شخصية عزيزة علينا..واحدة من الناس الذين دائما يقفون مع المقهى..وأصدرت قبل فترة محكياتها..والآن نحتفي بها ..بهذه المناسبة الحلوة..عيد وحكايات ..فيحاء السامرائي قدمت في منتجها الأخير (محكيات) فيها شيء من الخصوصية والتمايز عن الحكايات او الروايات او القصص التي كنا قد تعودنا على قراءتها اوالأطلاع عليها، فسنأتي هذا اليوم على سر هذه المحكيات ونناقش عزيزتنا فيحاء حولها ..اطلب من العزيزين فيحاء ولؤي الحضور فورا بدون تأخير ..(تضج القاعة بالضحك..بينما يكمل فيصل جملته ) وقد أعذر من أنذر.( ووسط تصفيق القاعة وهي ترحب بالضيفين اللذين أخذا مكانيهما ).

لؤي عبد الأله - مساء الخير وكل عام وأنتم بخير ..ومعكم نحتفل اليوم بصدور كتاب الزميلة فيحاء السامرائي وشكرا للمقهى الثقافي على مبادرته على استضافتي واستضافة فيحاء اليوم وأتمنى ان يكون هذا تقليد عندنا أن نحتفي ونحتفل بالأصدارات الجديدة للزملاء والزميلات مستقبلا لأن كل كتاب يصدر خصوصا وهو يمثل كل العراقيين الذين عاشوا ، تقريبا، في نفس الظروف ونفس الأماكن ، وأيضا وجودهم لنفس الأسباب. فهذا مايدفعنا للقول بوجود مجتمع ذو مناخ او خصائص مشتركة بدأ يتشكل خلال ثلاثين سنة الماضية ،بل أكثر.. سيعتمد تقديمي على ثلاث نقاط أود ان أشير اليها..انا في الحقيقة لم أقرأ شيئا سابقا للزميلة فيحاء، اتذكر قبل سبع سنوات اعطاني احد الاصدقاء نصا لها فقرأته وفوجئت به حتى افترضت ان هذا النص سيكون جزءا من عمل أكبر ولذلك عندما أبتدأت بقراءة الكتاب الجديد "أنتظار السمرمر" وجدت ان ذلك النص لم يظهر انما هناك نص جديد تشكل خلال هذه السنوات ، خلال قراءتي ،خصوصا المحكية الثانية، التي تحمل اسم "غبار عجوز" شعرت ان هناك صدمة تتكرر دائما تقريبا ، او غالبا ، في الكثير من النصوص الأدبية سواء كانت روايات او قصص او سيرة أدبية أو مذكرات، وهذه الصدمة بالذات هي صدمة الـ 79، واذا لم تكن صدمة الـ79 ، فلنقل هي الصدمات التي سبقتها في الـ63او 69او70. كل هذه الصدمات تشير الى حقيقة ان عقل المنفي العراقي ، ليس محكوما بالزمن التاريخي، انما هو محكوم بالزمن العقلي، وما أعنيه بالزمن العقلي ان هذه الصدمات بقيت متكلسة في روح الأديب او في روح الكاتب وكأن ما يمكن تسميته بالفاصلة الزمنية او الزمن التاريخي غير موجود.انا استغرب احيانا وقد يستغرب البعض ايضا حينما يقرأون كتابا يتأمل او يتعامل مع ما حدث في عام 63 من تعذيب ومجازر وقتل، فهناك فاصلة زمنية عمرها خمس وخمسين سنة ..ولكن الزمن العقلي للمنفي ينفي او يلغي هذه الفاصلة الزمنية بين الزمنين..ربما حول هذه النقطة يختلف الناس الذين يعيشون في الداخل عن أبناء وطنهم في المنفى ..فلأن شعبنا، وأهلنا، وناسنا، يعيشون الصدمات المتكررة بشكل منتظم ، فإن كل صدمة جديدة تلغي الصدمة السابقة ، لذلك نحن الان امام ذاكرتين: ذاكرة تلغي ما حدث من صدمة سابقة لأنها تتهيأ للصدمة القادمة من تفجير او قتل اواعتداء، وأخرى جمدت على سنة محددة وهي مثلا سنة 79.

في المحكية الثانية هناك إضاءة لما تعرضت له بعض المدرّسات لرفضهن أن يصبحن بعثيات او ربما لعلاقتهن بالحزب الشيوعي ، وهذا غير واضح بالعمل بشكل مباشر، إذ ادخلن الى السجن وتعرضن للتعذيب..الخ ، هذه الحالة تتكرر بعد ذلك في المحكية السادسة والتي هي عبارة عن رسالة لأخت الشخصية الرئيسة في العمل (نيدابا)، حيث تتكلم فيها عن الفترة الممتدة مابين 1979-2003 وهذه صدمة اخرى يمكن اعتبارها وكأنها شهادة منتزعة من منظمة عالمية لحقوق الأنسان عما حدث في العراق ، في الفترة التي غابت فيها الشخصية الأساسية ،البطلة عن العراق.
حضرتني هنا فكرة لسيغموند فرويد /مؤسس التحليل النفسي ، كنت قد وجدتها غريبة في البدء ، لكن هذا العمل شجعني على ان أتقبل الفكرة التي تقول ان حضور الحلم – الصدمة (او لنقل الحلم الصادم او يمكن اطلاق الكابوس عليه)، هو لترسيخ او تثبيت صدمة وقعت في الحياة. وهنا الكابوس يأخذ شكلا رمزيا فهو لا يكرر الصدمة التي وقعت في الحياة بشكل حرفي، ولكن من خلال تكراره بصياغات رمزية مختلفة يصبح بامكان الشخص الذي قد تعرض للصدمة ان يتحكم بها ، اي ان يتشافى منها ، أو يخفف من وطأتها، وتبدو لي الكتابات التي بقينا نكررها في المنفى..هي نوع من محاولة الشفاء الجماعي ، عبر النص الأدبي بطرائقه المباشرة أو الرمزية أو المجازية. وربما نجد في المحكية السادسة التي تحمل عنوان "عصير الظلام"، (لاحظوا حتى العنوان يبدو غريباً) نجد في المحكية انها أشبه بشهادة..إذن هذا النص يقترب كثيرا من الواقع ، بمعنى انه لم يقدم اي نوع من المجاز او الرمز، انما قدم الواقع كما هو ، وبشكل تقريري ، فسرد ما حدث من عام 1979 الى عام 2003. بالنسبة الى فرويد يجد ان هذه الطريقة، طريقة اعادة انتاج الصدمة عبر الحلم ،هو طريقة للشفاء والتحكم..الكتابة الأدبية بتكرارها لهذا الحدث تقوم بنفس الشيء، كأنما كلنا نحن نشترك بشكل لا شعوري لإعادة صياغة صدمة المآسي الكبرى التي عاشها العراق، ولهذا السبب نجد اننا نتساءل اليوم بعد كل هذا الخراب الذي حدث ، بعد كل أنواع الحروب التي تعرض لها العراقيون، كيف ستظهر في الأعمال الأدبية مستقبلا. فما حدث في عام 2003، خلال الحرب التي أطلِق عليها "الصدمة والروع"، أو خلال الفتنة الطائفية التي وقعت بين عامي 2006 و2007، قد يجد طرائق للتعبير عنه بعد عشرين سنة لدى الأطفال الذين تعرضوا للرعب الكبير في كتاباتهم...ولهذا السبب أجد أن هذه الكتابات التي نقوم بها هنا هي تدخل كسجل أو أرشفة أدبية لمسار الصدمات التي عاشها العراق خلال الستين سنة او أكثر.
مع ذلك أجد في هذه الصدمة جوانب أيجابية، على الأقل بالنسبة للزميلة فيحاء فانها لم تكتف بنقل الصدمة وانما هي في محكيتها الثانية ،حاولت ان تستدرج الواقع الذي عاشته هي او الشخصية المتخيلة، من خلال الصوت ..أستطيع أن أفترض ان الكتابة قد وقعت ضمن عالم صامت تماما ، ولكي تعيد الحياة بكاملها ،الى حياة الشخصية منذ طفولتها حتى شبابها ،كانت بحاجة الى ان تعيد الحياة الى العائلة او الأسرة نفسها من خلال الصوت، وهذا الصوت تجسد عبر الأغنيات والأمثال والمناكفات والحوارات ، فهي استدرجت شخصياتها عبر الصوت ، واستطاعت ان لا تتناول أحداثاً محددة ، وإنما حاولت ان تنقل مناخا عاما متكررا ، وهذا المناخ يتكرر سنويا ، مثلا كيف يستقبل البغداديون شهر محرم؟ أو الأعياد؟ أو المناسبات الصغيرة..وعبر هذه التفاصيل التي قد لا تحمل اي أهمية أو قيمة إذا اخرجت من سياقها تم الكشف عن الواقع الذي عشناه ، كلنا ، أو على الاقل بالنسبة إلي، إذ وجدت أن هناك تماهيا بين أسرتي وأسرة المحكية الثانية، بين أمي والأم في نفس المحكية. ولعل أهمية هذا التفاصيل، أخذت معنى وأهمية بسبب علاقتها بالصدمة نفسها ..ولهذا السبب، كان بالإمكان إصدار هذه المحكية الثانية، التي احتلت نصف الكتاب تقريبا، في كتاب مستقل عن المحكيات الأخرى لأنها تمتلك كل خصائص الكتاب من حيث الحجم او من حيث التيمة ،أو من حيث الإضاءة لفترة زمنية محددة.

النقطة الثالثة ، التي أحب الإشارة إليها على عجل، هي القدرة الهائلة التي تملكها فيحاء في صياغة (الباروديا)، أو ما يسمى بالمحاكاة الساخرة، فهناك مشاهد مرحة جدا وقادرة على أن تخلق مزاجا مختلفا تماما عن أمزجة الكتاب الأخرى كالمزاج التأملي أو المزاج السوداوي، فقد خلقت مزاجا فيه دعابة كبيرة له القدرة على أضاءة هذا الفسيفساء الذي اسمه العراق، بكياناته الأثنية والمذهبية المتعددة والمتنوعة، ولذلك أقترح الآن ، وتأكيدا على كلامي ، ان تقرأ فيحاء نصا نفتتح فيه الأمسية ، وطالما أننا نعيش أجواء العيد، مشهدا يعبر عما أسميته بالمحاكاة الساخرة.
فيحاء – في البدء أرحب بالحضور الكرام ، وشكرا للمقهى الثقافي على الاستضافة، وشكرا للأخ لؤي على تقديمه ،وايضا أشكر كل من ساعدني وقدم لي دعما على أنجاز هذا الكتاب ، مع تمنياتي لجميع الحضور أياما سعيدة وكل عام وأنتم بخير ..سوف أقرأ عن شخصية (فارس) وهي تبسيطية وممكن هي روح الحياة بالنسبة الى المحكيات:
ثم تقرأ :".. يتوقف فارس في طريقه الى الموعد عند بائع ينادي على (فول سوداني) .. يرى أن من واجبه توعية هذا العامل البسيط المسحوق، باعتباره مشروع عضو في حزب للطبقة العاملة يدعو الى اسقاط العبودية وعلى رأسها عبودية رأس المال كما يسميها صلاح :
"أنت وهمتك ابو الفوارس، إذا لم نعرفهم نحن الحزبيين، يبقون في كنف العبودية والتخلف طول عمرهم"
-عمي انت أمبين عليك من طبقة البروليتاريا ؟ّ
- شنو عمي؟
- ولازم تعرف، هذا فستقك فستق بروليتاري مو فستق عبيد.
-لا والعباس عمي هذا فستق عبيد.
.- أوووف.. هاي مشكلتنا، ما نحرر انفسنا ونكسر قيود العبودية.. اللـه وكيلك ولينين كفيلك
لا زم نغير أسم هذا الفستق.
- شلون عمي؟
حينما يرى الحيرة في عيني البائع، يقترح عليه تغيير اسم بضاعته الى فستق الكادحين أو فستق الطبقة العاملة، لأن زمن العبيد ولى وانتهى.
يقرر ان يكون هذا البائع أول شخص يناقشه ويثقفه، غير أن الرجل يتركه خائفا دون ان يرد على جدل فارس الديالكتيكي..
ينظر بزهو نحو الأفقً "متحسراً متفكرا" :
-يا إلهي! ، مهمة توعية البسطاء والمتخلفين. كم هي شاقة وعويصة حقا.!! كم ينتظرنا عمل كثير من أجل هؤلاء المساكين ..
"يأتيه ألهام الشعر، يفكر في نظم قصيدة مطلعها "
- يريدون فستقا وناسا عبيد ونريد وطنا حرا وشعبا سعيد..
"ضحك وتصفيق من القاعة"
-لؤي : أما الآن جاء دور فيصل لعيبي ..أين هو ؟
ينادي لؤي عبدالأله على فيصل يدعوه ليقدم مداخلته ..يعتذر فيصل ..يصر لؤي على دعوته ويقول انا عندي برنامج متفق عليه .
وهكذا تتواصل الأمسية ، في أجواء المقهى الحميمية، تسودها بهجة العيد ، لكن بأيقاع متواتر ، يديره الروائي عبد الأله وكأنه ينسج حبكة احدى قصصه .. ويبدأ فيصل بالحديث وهو يتناول الشاي الذي تسكبه له فيحاء في ( استكان ) من( قوري ) بغدادي وتضّيفه (كليجة ) العيد فيقول:
فيصل- انطباعاتي من قراءتي للمحكيات ..ان فيحاء نطّقت الأشياء والأشجار والحجر والمفاهيم أضافة الى البشر ، طبعا ،هذا ما ذكرني بالأساطير وحكايات الأطفال تلك التي نجد فيها العصافير والاشجار تتكلم.. وهناك نكهة السخرية او الضحك على الثوابت والمسائل المقننة والجادة..وفيحاء أعطت لكل شخصيات المحكيات الحرية في الحديث والتعبير عن خصوصيتها ما عدا شخصية (مطيع) وهو الوحيد المخفي بالرغم من انه المهم بالنسبة لـ(نيدابا)التي تجاهلت هذا الشخص الرائع الطيب الوديع الذي لا رأي له في حين اننا لم نر له رأيا ، على عكس غيره من شخصيات..واعتقد تنحيته على هذه الصورة فيه تحيزا من نيدابا بالضد من هذا الشخص.
شيء آخر لاحظت احتواء المحكيات على اشعار ونصوص لأغان وأمثال شعبية ، كنت أتمنى ان تكون لها هوامش تبصر القارىء بمناسباتها او مغزاها أو من قائلها .وتمييز بين ما أقتبسته فيحاء والآخر الذي نظمته هي .. على العموم نص جميل ..برافو فيحاء.
لؤي- الآن يتفضل الزميل عدنان حسين أحمد ليقدم مداخلته ..
عدنان – أسعدتم مساء ..وكل عيد وانتم بخير .. مداخلتي هي مقالة منشورة سأختصرها قدر الأمكان..
ونقتبس هنا من مقالته التي نشرها تحت عنوان (أنتظار السمرمر..انطاق الأمكنة واضفاءالصفات الأنسانية عليها ) جاء فيها :" يمكن القول بأطمئنان كبير أن "أنتظار السمرمر" هو نص روائي بامتياز،وليس محكيات، كما ذهبت الكاتبة.فالحكاية كما يعرفها الكاتب والروائي البريطاني فورستر في كتابه المعنون بـ"أركان الرواية":"هي قص أحداث مرتبة في تتابع زمني "ص39 " ويورد فورستر ثلاث جمل للتفريق بين الحكاية والحبكة لكنني سأكتفي بجملتين فقط، فأذا قلنا:"مات الملك، ثم ماتت الملكة بعد ذلك فهذه حكاية لأنها تخلو من الحبكة..أما اذا قلنا:"مات الملك ، ثم ماتت الملكة حزنا" فهذه حبكة لأننا نكتشف ان سبب موتها هو حزنها على وفاة الملك".وهكذا نستطيع التمييز بسهولة بين الحكاية والقصة التي تنطوي على حبكة ما.سواء كانت بسيطة ام مركبة أم معقدة . وكتاب "أنتظار السمرمر" يشتمل على حبكة رئيسية تضم المحكيات السبع برمتها،كما تنفرد كل محكية بحبكتها الخاصة، التي يمكن أن تقرأ كقصة طويلة.ويستطيع القارىء أن يقرأها أيضا كقصص متواشجة،لكن القراءة الأنجح لهذا النص السردي المؤثر هي أن يقرا كنص روائي متضّام".
يطل علينا من على الشاشة الكبيرة كريم كطافة الروائي العراقي المقيم في هولندا والذي أرسل مداخلته متلفزة ويقول عن محكيات فيحاء عبر قراءته التالية:
كريم- سأقتصر مداخلتي على تفصيلتين وجدتهما تستحقان الأشارة والتنويه عليهما ، لقصر الوقت الممنوح لي بل والشحيح،الاولى تتحدث أو التقطت فيها علاقة ، ربما انا أعثر عليها في كتاب سردي..هي تلك العلاقة بين السرد والموسيقى.. من خلال الغناء.. كانت فيحاء ترسل لي مسوداتها ليس مرة واحدة ، انما بالتقسيط..فكانت ترسل مع كل مسودة رابطا على (اليوتيوب ) لأحدى الأغاني ، في البدء لم أفهم الربط بين الأغنية المرسلة والمسودة (النص) ، تعاملت في مستهل الأمر دون أهتمام ..لكن ما أثار انتباهي مواصلتها بالأرسال ..فاكتشفت ان تلك الأغاني هي جزء اساسي من النص نفسه ، بل يكاد لحن الأغنية يسري في جسد النص لو تمعنا في القراءة مع سماع الأغنية ..توصلت ان الغناء لدى فيحاء قد تحّول الى ذاكرة مستقلة ..ولها آلية خاصة في الخزن وفي البوح..بل أكاد ان أقول ان ذاكرة الأغنية هي أصدق من الذاكرة الطبيعية للأنسان.حين يحاول استعادة الماضي ..فذاكرة الانسان معرضة للعطب..عكس ما تنطوي عليه الأغنية في الخزن .
أما التفصيلة الثانية فهي حول (السمرمر) وهو طائر ينتمي الى فصيلة الزرازير وله خاصية التهام الجراد ولذلك ينتظره الفلاحون ليخلصهم من عدو محصولاتهم..وعند الكاتبة له دلالات أخرى في كتابها هو انتظار العودة للوطن بالنسبة للمنفيين ..لكنني وجدت كناية أخرى في المحكيات هي جوهر مضمونها ، هي عبارة عن سيناريو ..اعتقد ان 90% من الشابات والشباب مروا بهذا السيناريو وعنوانه هو ان الحب الأول يجب أن ينتكس ..كيف ينتكس؟..ليس هذا مجال تفصيله ..لكن الأكيد ان الحب الأول سيكون هو الأجمل والأقرب الى النفس ولأنه انتكس فسيترسب في قاع الذاكرة على هيئة كائن مظلوم بحاجة الى العطف والحنو لكن هذا الكائن المظلوم – الضحية يبقى حيا طيلة حياة الأنسان ويستعيده في اوقات الألم والجرح والحزن ويخرجه من صندوقه ويظل يتمعن فيه ولكن عملية اخراجه هذه فهو كحلم تبنى عليه سرديات لا تخلو من خيال جامح . وكيف يمكن اللقاء بهذا الشهيد او الطائر او الحلم ..الخ ..تلك سمة بشرية فالانسان يعرف ان هذا الشيء قد مات لكنه يواصل الانتظار وكأنه يجب ان يأتيه في وقت ما ..وجدت في المحكيات تفصيل قصير يلخص هذه الفكرة وفي احدى المحكيات حوار قصير بين المعلمة والتلميذة عشتار ..اعطت المعلمة لطالباتها نصا قصيرا وطلبت منهن استخراج عدد الأفعال التي يتضمنها النص ..عشتار استخرجت كل الأفعال لكنها اهملت فعلا واحدا بتعمد وهذا الفعل كان (مات) وحين سألتها المعلمة لماذا نحّت هذا الفعل جانبا؟ اجابتها ان الفعل الذي يمحي كل الأفعال من بعده هو ليس فعلا.وبهذا الوعي كتبت فيحاء محكياتها ".
وتحث الأمسية الخطى في الحوار التحليلي –النقدي فيثير لؤي عدة أسئلة أمام فيحاء تتمحور حول آلية وتقنية كتابتها من بينها حول تعدد الحكواتية – الرواة- الضمير المتكلم ..ولماذا كان عندها لكل شيء روحا سواء الأشياء وحتى تلك المعنوية والمفهومية ؟ ولماذا أعطت طابعا لا معقولا لواقع معقول؟ ولم كان أسم الرواية (انتظار السمرمر) وليس (بانتظار السمرمر) ولماذا صنفت عملها محكيات وليس جنسا آخر؟ ولماذا ركزت في كتابتها على الفعل المضارع ..والذي هو يختص في وصف الشيء اللحظوي (الآن) .. ؟
محاور كثيرة أزدحمت بها الأمسية .. لكن الحضور يواكب الحوار بحيوية .. فتدلي فيحاء باجابات مقتضبة ، تحت ضغط الوقت ..فتقول انها عمدت الى أنسنة الأشياء والحيوانات لأنها عالجت حيوات مغتربة تعيش بعيدا عن الوطن حياة تشبه الأسطورة ..لم تعش حياة طبيعية .. وأكدت انها عمدت الى أجتراح مغامرة التجديد والتجريب في الكتابة وانها استخدمت المضارع لانها ارادت الاحتفاظ بالماضي الجميل الذي أرادته ان يكون الحاضر ..هذا الفعل الذي وظفته في حب الماضي. واما ما طرح حول شخصية (مطيع) فهو عندها كان مظلوما من مجتمع يعاقبه لانه طيب ونزيه ويتمتع بصفات أنسانية أصبحت اليوم نادرة. اما تعداد أستخدام اللهجات الكثيرة .. فقد تبادرت الى ذهنها بعد سقوط انتفاضة 1991 واستمرار مصاعب المنفى الذي ينوء بثقله على الشخص المنفي وهو يقارع الحاضر والفشل والاحلام المعطوبة .
اشارت مداخلات أخرى الى مفاصل مهمة في المحكيات حيث تحدث المهندس كريم السبع عن الفضاء الذي حلقت فيه الكاتبة بحرية .واكدت السيدة بدور الددة على ان الكتاب كرس لتصوير الشخصية العراقية في نهاية السبعينات ولوعات المنفى وأثنت على استعارة فيحاء لأسم مخلد والذي هو معادل موضوعي للوطن المفقود واختتمت السيدة مي الأمسية بعبارة قائلة:" اننا في المنفى لا نتذوق طعم العيد ..لاننا ببساطة بلا وطن .. لكننا في هذه الامسية .. يغمرنا شعور اننا نقترب من الوطن .. اذن لنا اليوم عيد ..شكرا لفيحاء ..شكرا للمقهى الثقافي العراقي في لندن".