ادب وفن

إنتاج المكان.. صوّر المكان ومناحيه الفكرية / جاسم عاصي

العتبة
"إنتاج المكان" عنوان كتاب الدكتور محمد الأسدي الذي انطوى على دلالة المكان، من جانب انتاجه. والانتاج هنا يأتي من حاصل تحصيل لظاهرة العبور من الصورة الأصغر نحو الصورة الأكبر. بمعنى يقتصر الانتاج على توسيع دائرة المكان، وخلق صيرورة جديدة تُرقى به، وتسجله ضمن الرموز التي يتداولها الشعر. فمثلاً تتحوّل "جيكور" إلى رمز بيئي بتقادم الزمن وفعل قراءة الشعر، وانتاجه. كذلك "بويب" وتحوّله من ساقية إلى نهر عظيم يتغنى بصورته من يقرا قصيدة السيّاب. وهذا يشمل كل ما حاول الشاعر أن يؤسس عليه رموزه، مرتقياً بذلك إلى مصاف الأسطورة في التعامل مع مفردات بيئة الجنوب. فالعتبة هنا مثيرة وذات أبعاد واسعة من زاوية النظر إلى الكيفية التي شحذ الشاعر مخيلته الشعرية، ومن أجل تحويل المهمل أو المسكوت عنه إلى ظاهر بيئية مثيرة في التلقي، لأنها ارتبطت أساساً ببيئة مهملة بالرغم من غناها.
المحتوى والمدار
في الكتاب، نجد الشاعر يعبر بنا من خلال شعره من البيئة ومفرداتها، موّظفاً تلك التي تنطوي على المسكوت عنه، أو المهمل. فمثلاً تكون "جيكور" علامة مكانية تعبر محيط دائرتها باتجاه تشكيلها شعرياً وتحويلها إلى رمز كبير. كذلك "بوّيب" الساقية التي تغنى بها الشاعر على إنها نهر واسع الجريان. مما خلّد مثل هذه المفردات ذات الدلالة المكانية إلى كيان كبير فاتُخذ رمزاً قارّاً في شعر السيّاب.
إن محاولة كهذه شعرياً دفعت المؤلف إلى تقريب فعل الشعر إلى فعل انتاج. لذا نرى في مداولة هذا شيء من المقبولية التي سوف ترفدها القراءة المتواصلة مع الشعر. فالقراءة تُجدد وجهات النظر. كما أكد المؤلف على جملة مداخلات أسس عليها فكرته في البحث، واقتران فعل الانتاج للمكان. معتبراً إن المكان الشعري غير المكان الطوبوغرافي. فالشعر وبقية النصوص والأجناس تؤسس مكانها على أساس فعالية المخيّلة. "السيّاب" واحد من الشعراء الذين أسسوا لهذه الرؤى المكانية البسيطة والغنية بمعانيها، لأنه يُجدد البعد الأسطوري للمكان، والمتأتي من تراكم الحكايات حوّله، أي أن مكان الشاعر هو مجموعة الحكايات. لذا كان الشعر واحد من الفعاليات التي نسجت خيوط المكان، بحيث أعادت انتاجه شعرياً. فللغة الشعرية دوّر في تأسيس حبكة نص المكان، وتهيئة صورته المؤثرة. الشعر هنا وسّع دائرة المكان، ونقله من المحدود إلى المتسع. بمعنى أصبح له تاريخ تتداوله النصوص. فقد حذا حذوه الكثير من الشعراء البصريين وهم يتغنون بأمكنتهم أمثال "سعدي يوسف، طالب عبد العزيز، مهدي محمد علي، مصطفى عبد الله" فاللغة في شعرهم حمّالة أوجه، وواحد من تلك الوجوه هو المكان وتفاصيله المؤسسة لصورته الخالدة في الذاكرة الفردية والجمعية. إن المكان كحيّز وجد إزاءه فعالية من المداولة الفكرية، التي نرى فيها تعميقا للمكان. فمثلاً رأى "افلاطون" أنه موجود بالضرورة منذ الأزل، هذا يعني أنه مؤسٍس لمؤسَسْ. وهذا يقترب من فكرة انتاجه. فهو حيّز تعرّض إلى متغيّرات بفعل فعالية الطبيعة، لكنه كان أكثر تحوّلاً في مداولة النصوص، لأنه اتخذ من المخيّال دالته للتعبير عن المهمل في التاريخ. وبهذا اتسعت دائرة مداولته في الرؤى الفكرية، فقد رآه "أرسطو" محلاً له أسسه. لذا كانت نظرته الفلسفية تدور حوّل موجود بالضرورة أيضاً. لذا فقد تضافرت فلسفياً رؤى "افلاطون وسقراط" كما لو أن كل واحد ممهد لرؤى الآخر. فإذا كان الأول قد مهد لدراسة المكان، فإن الثاني نهض بإثبات وجود المكان. ولعل "اقليدس" لا يبتعد عنهما في وضع مقاييس له هي "الطول والعرض والعمق". من هذا دعانا البحث الفلسفي إلى أن نرى في المكان صوّر متعددة، يلخصها في المكان الذي يشغله الجسم، والاخر الذي تشغله الأجسام. بمعنى ثمة مكان فردي كالبيّت وجمعي كالقرية والمدينة. إن تأصيل المكان، لا يأتي من فراغ، بقدر ما يؤسس لصورته عبر المكان المنظور والمعاش، فالناقد "شجاع العاني" يرى؛ أنه ينبني على أساس من التخيّل، لكنه لا يكتسب ملامحه وديمومته إذا لم يتماثل بدرجة أو بأخرى مع العالم خارج النص. أي أن له صورة في النص، تعتمد على صورته في الواقع، والفرق بين الصوّرتين، يؤكده المخيّال الذي يُجمّل المكان من خلال ربطه بالحلم. فمؤلف النص بذلك يربط وجود الشخصية بوجود المكان من خلال وصفهما. فكل منهما يرتبط بالآخر بتاريخ طويل متوارث ومؤسَسْ عبر الأجيال. فالمكان امتداد للشخصية، والشخصية امتداد للمكان ( حسب د. شجاع العاني ) فالمكان على هذا الحال ، وحسب رؤى الانتاج ، له، فاللغة ليست الوسيط الوحيد في تجسيد خصائص المكان وتخليده في النص، بل اللغة المتخذة من المخيّال معبراً لها. فبذلك تعبر صورة المكان مجال سطحه في الواقع، ووضعه موّضع المتخيّل أو الافتراضي. فهو واقع محتمل، لكنه بالتراتب والتراكم تتبلوّر صورته حتى يغدو رمزاً قارّاً كما في شعر "السيّاب" أو سواه. فالناقد ياسين النصير يرى وهو بصدد تداول فكرة المكان، من أننا نرى ما لا يمكن أن يراه غيّرنا. ويعمد بذلك إلى تأكيد مؤثرات المكان كالأصوات التي بثها الساكنون فيه عبر تاريخه. فالمكان محض تاريخ ووجود بشري مارس أفعالاً مختلفة، أصبحت مدوّنة تاريخية حيّزها المكان. فنحن بممارستنا البحث في المكان، إنما نعمل على إثارة الذاكرة ذات المحمولات المتعددة للصوّر والتواريخ. إننا نؤسس للمكان في النص عبر رؤى مكثفة، لعل الشعر أكثر الأجناس إثارة للدهشة وهو يتعامل صورة المكان الراقدة في الذاكرة. وبهذا يكون النص حمّال أوجه، ولعل التاريخ واحد من تلك الوجوه. وكما عمل "السيّاب" على أرخنة المكان، عمل أيضاً كتّاب السرد ومنهم "غائب طعمة فرمان، فؤاد التكرلي، عبد الخالق الركابي".
فعالية المكان
لعل ما كان متداولاً في ما تقدم، خلق جملة رؤى، منها ما يخص فعالية المكان، باعتباره مؤثراً وخالقاً للصيرورة من خلال علاقته بالإنسان. إن التعامل مع المكان، يتطلب معرفته كما ذكر أسعد الأسدي/ معرفة المكان وبذلك لا بد لمنتج المكان في النص أن يعرف بخصائصه، بل تأكيداً؛ عليه أن يشارك حسيّاً مع المكان من خلال معايشته. لأنه ــ أي منتج النص ــ يتعامل مع التاريخ، والاستقرار في المكان. ذلك لأن المكان، ليس شيئاً مرئياً فحسب، بل هو مجموعة أفعال ومتغيّرات. فهو يحتوي على بنية تاريخية. فإذا كان مكان الشاعر قد عكس تراجيدية حياته، فلأنه ــ أي الشعر ــ سجّل أمين على ما آلت إليه حياة الشاعر بدون مكانه الأول، فقد أخذته عوامل شتى مبتعدة به عن مكانه، وما أن حل به ما حل، حتى غدا المكان الأول حلمه الأثير، فكان له مجالاً في شعره الذي تداخل فيه التاريخ بالأسطورة والحكاية. فتراجيدية شعره متأتية من تراجيدية حياته، وهو يواجه محنة المرض الذي أفقده صورة الفردوس الأرضي، فما كان منه إلا أن تشبث بالغنائية المرتبطة بالمكان، فحين يذكر ببطء غنائي "بوّيب. .. بوّيب" يمتزج هذا الصوّت مع صوت المكان، أي تحضر نبرات الأصوات التي ترافق النهر وعظمته بالنسبة للشعر. فالحلم برؤية الفردوس المفقود، كان حلم وجوده الذي استلبه المرض والعوّز، ولنذكر هنا رسالته إلى الشاعر توفيق صايغ الذي وضعها غلافاً لمجلة "شعر" حيث تتضمن طلب مبلغ لشراء العلاج لطفحه الجلدي. فالشاعر في كل ممارساته الشعرية خاصة في قصائد مثل "انشودة المطر، المومس العمياء" عبر بالشعر إلى مصاف الأسطورة. فـالسياب شاعر حالم، وحلمه يرتكز على صوّر متعددة، وواحدة منها حسه اتجاه مكانه المفقود، وهو فردوسه الذي كان، والمرتقب. فقد مكّنته الظروف النفسية من العبور من المعرفة والحياة إلى توسيع رؤاه حوّل المكان، جاعلاً منه مكاناً عالمياً من خلال الشعر حصراً، لأنه لغة الذات وهي تواجه محنتها. إنه ببنائه الشعري، وضع البعد النفسي في الصدارة، لأنه أساساً يواجه خرابا متعدد الأوجه. فصورة المكان لديه مشوّشة ومرتبكة، يُمسكها المستحيل، أو غير المُحقق للصورة الناصعة البياض لذا نجد أنه كذات شعرية يمتزج في رؤاه عبر ذاكرة مرتبكة أيضاً كل ما هو متعلق بالمكان، بحيث حوّله إلى نشيد شعري تلعب الموسيقى دوراً مؤثراً فيه، ناقلة ارتباكه النفسي. فقد استحضر في شعره كل ما يتعلق بتاريخ المكان، محاولاً تعويض الفقدان بالمتخيّل.
تنوّع المكان
تتنوّع الأمكنة، وتتطوّر الدلالة، بما يخدم المعنى. وفي شعر السيّاب وسواه من منتجي النصوص. فهي خاضعة لفعالية الوجود، الذي أنتج أمكنة ذات خصائص متعددة، إنسانية رفيعة، واستبدادية غارقة في المفارقات. ومن هذه الأمكنة هي :البيّت الذي شكل في شعر السيّاب معلما حاملا لما تحوي ذاكرته عن بيت الجد بكل صفات وفعالية حيويته. فقد غدا الحلم المؤمل للاستقرار واستعاد الوجود المندثر، حيث لم تبق منه سوى جذاذات الذاكرة التي تمارسها الذات للتسرية تحت ظروف صعبة وقاسية. والبيت حسب "باشلار" ومن ثم النصير هو المأوى الذي يركن إليه الإنسان. وهو مؤول النص وكينونته. والبيّت شغل كتّاب النصوص، لاسيّما أولئك المهاجرين الباحثين عن المكان وسد المتغيّر كما فعل غائب طعمة فرمان في ظِلال على النفذة وزهير الجزائري في النجف ذاكرة ومكان. أما المفردة الأخرى فهي "النهر" وهو أيضاً حامل لحيوية الوجود، وموئل لذكرياته ولزمنه الأليف. فهو الحيّز المتحرك الذي يجلب الطهارة، عبر طقوس دينية، أو الاستحمام الطبيعي في لجته. ثم أنه عامل للتخصيب من خلال اعطاء الأرض ما يُطفئ عطشها. وهناك المكان المتسع ذي الدلالة كـ "البحر، الصحراء، المدينة" ثم المكان الأليف والآخر غير الأليف كالسجون والحقول والمتنزهات ومدن الترفيه. أما من حيث سعته، فهو المكان الضيّق كـ "القبر، السجن، المشفى، ومشافي الأمراض العقلية، المحاجر". ولعل المكان الضيّق والمحدود شكّل أهمية من جملة صوّر شعر السيّاب ونصوص غيره، وقد تشعب إلى "القبر" واحتوائه للأجساد الأب والأم والجد، بل لكل من كان علامة في حياته. ثم "السجن" الذي عانى الكُتّاب جرّاؤه القسوة على يد السجّانين، بسبب انتمائه إلى الجماعة سياسياً. كذلك المشفى الذي آل إليه في آخر العمر، ثم سجن المرض العضال. وقد كان للمكان الأسطوري تأثيراً وعلامة نابضة في الشعر والسرد، وفي شعر السيّاب نجد "المعبد، المحراب، بابل، العالم السفلي، ورموز الآلهة القديمة" وصولاً إلى المكان الحلمي. وهو وإن اتخذ قناع "جيكور" إلا نه جسّد الحلم في مرآة صورة الأم وحضورها في الملمات:
"أماه
ليتك لم تكوني خلف سور من حجار
لا باب فيه لكي أدق
ولا نوافذ في الجدار"
فالمكان ــ الحلم تجسّد في "جيكور" التي ضمت سنيّ عمره بين أهله ومرتع صباه وشبابه. فالمغادرة تعني الانطفاء وتراكم الوجع كما ذكر الشاعر سعدي يوسف في قصيدة "الطيطوي" بعد أن استعرض جمالية المكان في ريف لندن، عرّج على فراغه النفسي في المكان:
"لا موّطني موّطني
ولا أهلي هموا الأهلُ"
هذه المتعلقات خلقتها الغربة، أي البُعد عن المكان ــ النشأة، إذ يبقى المكان البديل هو المنفى، والمكان المستعاد هو الملاذ في الحلم، وان احتوى الأول من الجمال الكثير والمدهش، لكنه لا يعوّض عن خصائص نفسية تربط الإنسان بمكانه الأول، أي تاريخه وحبل مشيمته المبتدئ.