ادب وفن

قراءة اللوحة التشكيلية والتذوق المعرفي / داود سلمان الشويلي

تعد اللوحة التشكيلية نصاً ابداعياً صامتاً بنسق غير لغوي مفرداته الألوان والخطوط وتشكيلاتهما، وهي شيء إيقوني مليء بالدلالات والمعاني التي تصل عبر البصر الى المتلقي، وتتحول أثناء رؤيتها وعمل العين فيها الى باقي الحواس الأخرى.
ومن خلال هذا التعريف البسيط يمكننا ان نضع منهجا لقراءة أي لوحة تشكيلية باعتبارها نصا ابداعيا مفتوحا لكل حواسنا العاملة.
أول ما يجابه المتلقي في اللوحة التشكيلية هو عنوانها الذي يعد عتبة أولى علينا اجتيازها من خلال معرفة ما يشير اليه، ودليلاً يأخذ بيدنا إلى معرفة مقاصد الفنان ونواياه، ويمكن من خلاله الولوج الى عالم اللوحة. وإن ما يحمله من اسم لتلك اللوحة سيساعد في قراءتنا لها، لأنه يعد جزءا من اللوحة الذي سيهدي المتلقي النبيه الى قراءتها، من خلال هدمها "تفكيكها"، وبنائها مجددا.
والعنوان يقوم بدور كبير في قراءة وفهم اللوحة من خلال تحفيزه، أو تحريضه، إفهامياً، للمتلقي، لهذا نراه يختزل كل المعاني والدلالات التي تحملها اللوحة، ويحتل موقعا استراتيجيا فاعلا في فضائها باعتباره دليلا، لهذا فهو يحمل دلالات ثلاثة، حاملة لنوايا الفنان ومقاصده التي انشأ على اساسها هذه اللوحة أو تلك ، هذه الدلالات هي:
- إما ان يكون قد تشكل من مكونات وأثاث اللوحة، كأن يكون منظراً طبيعياً، فتسمى اللوحة "منظر طبيعي"، أو أنها تحوي على ما تشكل طبيعة جامدة، مثل الاواني، أو الفواكه، فتسمى اللوحة " طبيعة جامدة ".
- او ان العنوان يحمل رموزاً لها دلالات تربطها بعلاقات مع محتويات هذه اللوحة ، مثل: عنوان "حب" للوحة فيها فتى وفتاة، او رمزين متعانقين، أو فيها مبان مهدمة وتسمى "حرب " وهكذا .
- او ان الفنان يسميها بعبارات غامضة لا تدل على معنى مباشر الا انها تدل على معنى يصل اليه المتلقي بعد اعمال عقله، مثل: "تقاطعات" أو "الحقيقة" على لوحات مرسوم فيها شيء ما، الا انها تدل على ذلك الشيء بصعوبة.
العنوان هذا إما ان يكون ضيقاً/ حرجاً بحيث تتململ اللوحة منه محاولة كسر قيودها التي كبلها بها ، وإما ان يكون العنوان ذلك واسعا كبيرا وتحاول لملمته لكي يكون على مقاسها.
ويتوقف ربط هذا العنوان باللوحة التي يشير اليها على الذائقة الثقافية "بكل ما تضم هذه الذائقة" للمتلقي، تلك الذائقة التي تخزن مفاهيم ومصطلحات وموضوعات عن هذا الفن وما يحمله من معان ودلالات كثيرة اختزنتها من تجارب قديمة في المشاهدة والقراءة والادراك .
ان العنوان هذا يعلن عن اجتهادات المتلقي الذاتية، الا انها ترتبط اساسا بين ذائقة المتلقي وذائقة الفنان صاحب اللوحة ، ولا يمكنه ان يبرز احدى الذائقتين ما لم نتقدم خطوة حيث التفكيك والتهديم من داخل اللوحة الفنية ذاتها .
***
عند محاولة "قراءة" اللوحة فإن ثاني ما يلتقي به المتلقي هو شكلها الذي صبت فيه، ومكوناتها من خطوط والوان وتشكيل انشائي .
ان الكيفية التي نفهم "نقرأ" بها اللوحة لكي تصل الينا، او نحن نصل الى دلالاتها ومعانيها ، تقوم اساسا على تفكيكها، وفرز عناصرها "الخطوط ، الالوان ، السطح ، الظلال، التشكيل الكلي لها"، والعلاقات الداخلية التي تربط هذه العناصر فيما بينها، حتى يمكننا ان نستخلص المعاني والدلالات التي تقولها لحواسنا كافة.
ان هذه القراءة تتطلب القيام بهدم ما تراه العين لتعيد بناءه من جديد من خلال الحواس الاربعة الباقية من خلال الذائقة التشكيلية والمخيال النشط، وهذا الهدم يأتي من خلال التحليل الذي نصل اليه بالتفكيك، تفكيك عناصر اللوحة وروابطها، لكي نصل الى العناصر المتكونة منها، وكذلك لمعرفة الروابط التي تربط بينها.
ان الهدم يعني تفكيك اللوحة وفرز عناصرها ومن ثم فهم كل عنصر بما يدل اليه، ويعنيه .
بعد هذا التحليل/ الهدم الذي تقوم به كل الحواس متضافرة، يأتي التركيب، أي تركيب عناصر اللوحة حسب ذائقتنا التشكيلية ومخيالنا النشط، وما ترسله الحواس الى قسم الادراك في الذاكرة الحية، أي نعيد بناء اللوحة من جديد، وهذا ليس معناه الابتعاد عن قصد مبدعها،بقدر ما هو اقتراب منه ، لان هذا البناء الجديد بني على ما اثث به الفنان نفسه لوحته باستغلال حواسه "النظرية"، مع الوصول الى الروابط نفسها التي ستتوافق قراءتنا مع تشكيلات المبدع نفسه، وهذا يتطلب ثقافة فنية/ تشكيلية من قبل المتلقي من خلال ديمومة مشاهدته للمعارض التشكيلية، وما يملكه من مخزون معرفي في هذا الفن.
وهكذا نقرأ أيَّ لوحة تشكيلية من خلال قراءة وفهم عنوانها، تفكيكها الى عناصرها الاولية، بناء تلك العناصر المفككة من جديد.
إذاً، علينا ان نستمر في زيارة المعارض التشكيلية والتثقيف على ما فيها من لوحات ، وكذلك علينا ان نثقف ذائقتنا التشكيلية ثقافة فنية تشكيلية، وثقافة عامة، وننشط مخيالنا، لكي نعرف كيف تقرأ اللوحة التشكيلية هذه او تلك، ويبقى هو الاساس في فهم أي لوحة او معرفة كيف نتذوقها بحواسنا الخمسة.
***
أخيرا يمكن القول ان العمل التشكيلي هو رسالة من الفنان الى المتلقي لتأكيد او توليد معنى ودلالة تحملها، فيقوم المتلقي بدور القارئ لتلك الرسالة المكتوبة بحروف ليس لها علاقة بالحروف الابجدية، وانما بالخطوط والالوان وتجسيد الموضوع المطروح برؤى ورؤيا خاصة بالفنان المرسل.