ادب وفن

الحلم الذي اثقل كاهلي (3) / مزهر بن مدلول

كانت الشمس دافئة، والسماء ساطعة الضوء، والطريق الى قريتنا لا يزيد عن عشرين دقيقة. خرجنا من المدينة بثلاث سيارات صغيرة، وفي الصباح سبقتنا اخرى. كانوا يتهؤون للاحتفال بمناسبة عودتي من خارج البلاد، وعلمت من اشقائي، بانهم ذبحوا بقرة، وانّ عددا من ابناء القرى المجاورة سيحضرون المناسبة.
لم افكر بالذي سمعته، فأنا اعرف القرويين عندما يحتفلون، هوسات وغبار واطلاق رصاص. لكنّ الذي كان يشغل بالي وانا في الطريق الى مسقط رأسي، هو الوجه الجديد الذي ستكون عليه قريتنا، وكلما حاولت ان ارسمها في ذهني، فلم اعثر الاّ على صورتها القديمة ببيوتها وطيورها وسواقيها وكلّ شيء كانت لي فيه مغامرة لذيذة!.
وفي طرفة عين، خطر لي أبي الذي مات قبل ثلاث سنوات من الان، تخيلته محدودب الظهر ويتوكأ على عصاه الخيزران. مازلت، وكأني اسمع صوته المليء بالاصرار، وألمح وجهه الوسيم بوجنتيه المتوردتين، وانفه الصغير، وعينيه الزرقاوين، وذلك البريق الذي يشع من جبينه.
ما ان عبرنا جسر الهولندي، واستدارت السيارة الى اليمين سالكة الطريق المؤدي الى (سيد دخيل)، حتى انتفضت مخيلتي، فكم من مرة قطعت هذا الطريق مشيا على اقدامي، او بسيارة الخشب، او (بالامانة ام اربعة وعشرين راكبا)، مع اهلي عندما كنت صغيرا، او لوحدي حين كنت مطاردا بلا قرار ولا ملجأ.
وصلنا الى قرية (البو جمعة)، فملأني شعور من عدم التصديق!، بأنّها هي ذاتها التي طالما مررت بها مع أمي عندما كانت تروم السفر الى المدينة. في ذلك الوقت، كان الطريق يتوقف في قرية (البو جمعة) ومنها تنطلق سيارة الخشب، وكنت ارافق أمي امّا في سفرها الى الناصرية او لزيارة قريبتنا (ام علي) التي تسكن هناك.
كانت اولى المفاجآت هي ان لا اثر لغابة (الزور) التي تفصل بين قريتنا وقرية (البو جمعة)، هذه الارض الشاسعة التي لا ينبت فيها سوى شجر (الزور) البري وبعض النباتات الشوكية، والتي كانت مرتعا للثعالب والارانب والطيور، أُقتلعت من جذورها تماما، فشعرت بالحزن لهذا المنظر الكئيب الذي نقلني من الحلم الى الواقع ودفعني الى ان اتخلى عن التمسك بالأشياء التي لا وجود لها!.
امّا المفاجأة الاخرى، فكان (شط البزل)، الذي حفرته الحكومة والذي شطر ارض أبي الى شطرين، فبدّل ملامحها القديمة. في هذه الارض التي نطلق عليها اسم (التسعىة)، كانت لي ذكريات كثيرة، لكن الشيء المهم الان هي تلك الاحاسيس التي جعلتني اشعر بالمسافة التي تفصل بين زمنين، الزمن الذي غادرت فيه هذه البيوت وحتى اللحظة التي توقفت فيها السيارة امام بيتنا القديم!.
يتبـــــــــــــ ع