ادب وفن

الحناء لون الفن الشعبي ورائحته / عبد العزيز لازم

دأبت شعوب ارضنا على إضفاء اللون الاحتفالي على طقوسها في المناسبات الدينية والمدنية فكانت نبتة الحناء التي تزرع منذ عصور سحيقة توفر الفرصة لتلك الشعوب على استخدامها لتلوين اجسادهم والتبرك بها وإظهار الزهو البشري بجمال الإنسان . لقد برعت النساء بخاصة في رسم النقوش على ايديهن وارجلهن لإظهار الفن النسوي والحرص على عرضه للناظرين من الرجال والنساء .
ولم تتخلف المرأة العراقية عن ذلك فالحناء زرعت اولا في جنوب العراق في منطقة الفاو وبعض انحاء ابو الخصيب تحديدا ثم انتشرت الى الهند وعمان وفاح اريجها العبق الى امريكا الجنوبية في عصور حضارة الأزدك والمايا حيث استخدمت هناك لنفس الغرض, وكذك زرعت في شمال افريقيا ومصر . وقد سبق رسم النقوش على الجسد الانساني طبع الكفوف على الابواب وعلى المعابد واضرحة الاولياء خاصة في تلك المناسبات التي يلجأ بعض الناس اليهم او الى قبورهم للمساعدة في حل مشاكلهم المستعصية . فيتم طلي الكف بالحناء ثم يدفع على سطح الجدار فينطبع شكل الكف على المكاك للتعبير المشاركة في الفرح بخاصة . وقد صدح صوت المغني العراقي فاضل عواد في ذلك معبرا عن طقس شعبي قديم مخاطبا الحبيب الغائب " لو بشروني بجيتك النا عا البوب جفي يطبع الحنا يا احلى وردة بكل خمايلنا ما غيرك بدنياي يحلالي ...." رابطا جمال البشرى المتمثلة بعودة الغائب الحبيب بالحناء كوسيلة من وسائل التعبير عن الفرح، فالعاشق يعبر عن فرحه بنشر الحناء بكفيه على ابواب المحبين في الحي وهنا تؤدي المناسبة المفرحة مزخرفة بالحناء الى وحدة الناس بالفرح . ان هذه الصورة تعبر عن الوحدة الروحية العراقية .
في الأعياد الدينية مثل عيد رمضان كان استخدام الحناء شاملا للريف والمدينة على حد سواء، وهو يعد السلف المشروع لانواع الأوشام التي يقوم بها الشباب رغم اختلاف الوان الوشم ومناسباته ، لكن الأخير يعبر عن اهداف مختلفة ذات طابع نفسي، وقد تتحول الى اشكال غير محببة خاصة عندما تستخدم من قبل اشخاص يقصدون بها روح القسوة والتحدي . وهذا لايمت بصلة الى الحناء ومعانيها.
ومن زخارف الجسد البشري التي ترافقت مع ظهور الحناء ما يسمى شعبيا ب " الدكة " او "الدقة " وهي استخدام الابرة الدقيقة والدق على الجلد في المكان المطلوب بضريات سريعة بعد وضع مادة السخام الاسود باشكال هندسية على منطقة خصر الكف بالنسبة للرجال والنساء . وعلى امتداد العنق بالنسبة للمرأة. وتفضل بعض النساء الدقة على امتداد العنق وتزيد ذلك بالدق على الحاجبين . اثناء عملية الضرب السريع بالابرة ينز شيء من الدم فيتشرب بالسخام المنتشر في المكان المطلوب وهنا يختلط اللون الاحمر باللون الاسود للسخام فينتح خطا ذو لون ازرق مكونا الشكل النهائي للنقش الجديد وهو الوشم الأصلي الذي يتطلب تحمل بعض الالام . لكن استمرار الدق السريع بلا انقطاع يؤدي الى تخدير المكان لدرجة ان صاحب الشأن يتحمل الألم بسهولة، بل قد يكف عن الشعور به .إن عملية الدق لا تجري بالمناسبات الدينية فقط لكن المناسبة الاشد تطلبا هي ايام الاعراس لكل من الرجل والمرأة . وثمة اختلاف في اختيار الاشكال بين نساء الريف وشقيقاتهن نساء البادية . فالمرأة في البادية تفضل اضافة المزيد من الاشكال الى وجهها، وتتفنن الفتيات في رسم اشكال على منطقة الحنك واعلى الحاجب . بينما تفضل المرأة الريفية دق " نونة" في وسط الشفة العليا وهي شكل يشبه النقطة العريضة الزرقاء .
هنا يمكن القول ان الوشم بالحناء ينتشر اليوم في اوربا بفضل الهجرات المليونية لاوربا وامريكا واستراليا، وبهذا ترمي الحناء باحلامها الجميلة الى مسافات تاريخية وقد تغطي العالم بأسره بالتدريج . وفي المقابل قد يعود الينا اولادنا بأوشام جديدة لتختلط ثقافات العالم الحديث في العراق موطن الحضارات القديمة .