ادب وفن

"النوتي".. وقلق الهوية / عبد علي حسن

يعد سؤال "الهوية" من الأسئلة الانطولوجية المهمة التي واجهت الإنسان منذ بداية التفكير المعرفي والفلسفي للبشرية . ولعل هيراقليدس قد وضع مهمة الفلسفة في إجابتها على هذا السؤال بمقولته "أنا استكشفت نفسي بنفسي" ثم جاء دور سقراط ليلقي المهمة على الإنسان ذاته بمقولته المعروفة "اعرف نفسك" لتعد هذه المقولة توجيها فلسفيا هو الآخر ليسهم الإنسان بذاته في معرفة نفسه، كما كان للفكر اللاهوتي دوره في الخوض في ماهية سؤال الهوية من خلال الاستفهام الحائر للقديس أوغسطين في اعترافاته "إلهي ..من أكون؟" ليؤكد العجز البشري على إدراك ومعرفة النفس، الذات. كما ان للفكر الإسلامي موقفه الواضح إزاء معرفة النفس من خلال الإشارة إلى ان معرفة النفس هي الطريق إلى معرفة الخالق من خلال مقولة الإمام علي عليه السلام "من عرف نفسه فقد عرف ربه" واضعا في البدء معرفة النفس. ومنذ ذلك الوقت المبكر للتفكير البشري ولحد الآن فإن "الهوية" تحظى ببحث مستمر في كل حقبة فكرية لتشهد رفدا مستمرا يقوم على ما تواتر وتراكم من خبرات معرفية للتوصل إلى الإجابة على هذا السؤال الحيوي والمهم الذي يضع الإنسان في مستوى عملية خلقه وحيازته وتوصلاته المعرفية المستمرة. والهوية في ابسط تعريفاتها هي جملة الخصائص والصفات التي تميز شخصا ما عن شخص آخر، خصائص خارجية وداخلية ، ولئن تم ترحيل هذا المفهوم إلى خارج الذات اعني الموضوع المتشكل من الجماعات الإنسانية، القومية، الطائفية، الطبقية، السياسية، العرقية، الوطنية ، المهنية ، الدينية .. وسواها من المنظومات الانثروبولوجية فانها --الهوية-- عدت الشغل الشاغل لهذا الشخص أو تلك الجماعة لتحقيق الانتماء إلى تلك الخصائص والصفات بما يضمن الحق في هذا التحقق، وبذا فقد اكتسبت الهوية بمفهوماتها الواردة بعداً ثقافياً شاملا لتكون هوية ثقافية ، وازاء هذا النضال الشخصي والجمعي فإن هنالك قلقا في إمكانية تحقيق هذه الهوية. ولعل مصدر هذا القلق هو في الاصطراع الدائر للهويات على اعتبار ان كل ما هو خارح الهوية الشخصية او الجمعية يعد "آخر متضاداً" وهو يسعى ويناضل من اجل تحقيق "هويته" الخاصة به .
ولئن كان ما ذكرته في هذه المقدمة يعد الجهد الفلسفي والمعرفي للإجابة على سؤال الهوية ، فإن البحث عن الإجابة في فن السرد يفترض سبيلا إجرائيا مختلفا عن طريقة البحث الفلسفي أو الانثروبولوجي للوصول إلى تخوم معرفة الذات والآخر. اذ نجد ان تحقيق هوية الذات، الجماعة في السرد يعد الهوية السردية التي يشير إليها بول ريكور بعدها "صورة الذات المتحركة التي لا تتحقق إلا بالسرد" والسرد هنا ليس بمعنى الإخبار والحكاية بل بمعنى الحراك الانطولوجي الفاعل بشكل لا يمكن تصويره إلا بوسائل السرد. ولعل مبعث ذلك التحقيق والتصوير هو القلق الوجودي الذي يراود السارد في إمكانية معرفة الذات، الموضوع وبالتالي تحقيق الهوية عبر المسرود.
ووفق وجهة النظر الآنفة سنسعى إلى تقصي قلق الهوية وإمكانية معرفة الذات والآخر وتحقيق هذه الهوية في رواية "النوتي" للروائي حسن البحار.
ويتبدى قلق الهوية وتأكيده في المناصات الخارجية الأولى وهي العنوان وصورة الغلاف وكذلك في العتبة الثانية، الجملة الافتتاحية وفي العتبة الثالثة، المعنونة "الآخر أنا". فعنوان الرواية "النوتي" إشارة اسمية للملاح الذي يدير السفينة في البحر، وهي مهنة تقع خارج قصدية الترحال أو السياحة، كما هو دلالة لشخصية مركزية في الرواية. لذا فنحن لسنا إزاء شخصية رحالة أو سائح له قصدية أو هدف من ترحاله في جمع المعلومات والتعرف على ثقافات المحطات التي تتوقف فيها السفينة التي يعمل فيها. وقد فرض الطابع المهني وجود هذه الشخصية في عرض البحر وعلى متن السفينة بعده بحارا ضمن طاقم هندسي لإدارة سفينة النقل التي يعمل فيها، لذا فنحن إزاء هوية مهنية.
ويبدو من خلال التوصيف الذي ذهبنا إليه بان الرواية ستعنى بشخصية "النوتي" وما سيجري له من خلال عمله هذا وتفاعله مع المحطات والمرافيء التي تتوقف عندها السفينة. إلا أن الصورة الفوتوغرافية لشخصية النوتي المفترضة التي هيمنت على مساحة واسعة ---اغلبها --- من الغلاف تتضمن فضاء دلاليا متسعا. ولا يهمنا ان كانت هذه الصورة متطابقة أو غير متطابقة مع الشخصية المفترضة للنوتي بقدر ما يهمنا الحركة أو التكوين الصوري الذي بدت فيه الشخصية وهو ما تضمن الفضاء الدلالي للتعرف على الملامح الأولية أو المكونة لشخصية النوتي التي أظهرتها الصورة الفوتوغرافية بوجه انتصفته الكف اليسرى الى نصفين. ليوحي بظهور او وضوح نصف وغموض أو غياب النصف الثاني بعده نصفا غير معرف وهذا مدلول تلك الحركة التي تفصح عن وجود الـ "أنا" ، النصف المكشوف فيما شكل النصف المخفي " الآخر" الداخلي---من داخل الشخصية --- وهذا يعني أننا سنكون إزاء شخصية يبحث نصفها المكشوف عن نصفها الآخر، المخفي .
وفي المناصة الثالثة التي وضعها الروائي حسن البحار تحت عنوان " الآخر أنا " سنعرف بأن الروائي يلجأ الى السرد في محاولته معرفة نفسه عبر اكتشافه للـ "الآخر " الداخلي لتكتسب هذه المعرفة والقلق لمعرفة ذاته مكتملة هوية سردية تتحقق عبر السرد الذي سيقوم به لاحقا . على أننا لا يمكن أن نغفل منظومة أخرى خارجية تشكل اغترابا للنوتي وهي "اللاهوية" التي يعاني منها مجمل العاملين في البحر. إذ أن التنقل بين الموانيء ومحطات وقوف الباخرة لأيام يتعرف فيها البحارة على ثقافات وعادات الشعوب التي تطأ أقدامهم أرضها دون التمكن من الاندماج وبالتالي عدم الانتماء إلى هذه الثقافات .ونرى ان هذه المعاناة من عدم الانتماء تشكل قلقا إزاء تحقيق هوية ما ، وطنية. ولعل الانتماء الوحيد الذي يشعر به البحارة هو على أساس مهني ووطنهم هو الباخرة .وهذا الإحساس الخارجي قد مهد لظهور سؤال الهوية الداخلي عبر البحث عن الآخر المكمل لشخصية النوتي . إذن نحن إزاء قلق مزدوج داخلي وخارجي ولا تتحقق هذه الهوية بنوعيها إلا عبر السرد لتكون هوية سردية ذات بعد ثقافي. فهو --النوتي-- يستحضر الآخر كشخصية ماثلة أمامه تحمل شكله الخارجي ويدخل في حوارات معه --خاصة في خلواته-- ويوجه الأسئلة له ويتضاد معه بغية الوصول إلى معرفة المزيد عنه ليؤكد بالتالي بأنه هو "الآخر".. ويحاول إيجاد تعالق بين ما تحقق من معرفة الآخر بالوضع الاستثنائي الخارجي الذي يعاني منه بفعل فقدانه هويته غير المهنية ليعرف من هو وماذا يريد والى أين سيفضي به هذا الترحال والإبحار المستمر على ظهر وطن غير مستقر ومؤقت المكوث. "منذ زمن ليس بقصير فارقتني الابتسامة ، وفي انفعال مفرط نظرت من حولي.. أفكر في النهاية. الرحيل إلى ما لا يتوقعه الآخر. فالنوتي هنا يحاول إشراك الآخر بمعرفة نهاية هذا الرحيل الدائم الذي لا يجد فيه ما يمكن أن يجعل قدميه تقف على أرضية ثابتة بملامح واضحة . وإذ يجد نفسه وحيدا مع "آخره" يعدها فرصة للقاء عن قرب " لم يكن معي إلا أنا وأنت--نصفي الآخر--- قررت ألا أرحل بطريقة المنعزل عن المعاناة كما يحصل مع الخائف من الموت خلف الشمس أو تحت الظلام.
ولا يخفي الـ "أنا" رغبته في التحرر من الآخر الذي يسكنه دون أن نعرف نوازع هذا الآخر وفي أي المفاصل يفترق أو يختلف عن "أناه" أو سبب رغبته في التحرر. "من المؤكد رغبتي في التحرر منك--نصفي الآخر --- بدأت تتسع .. على الرغم من سعي الـ "أنا" إلى معرفة "آخره" ربما يعده رقيبا دائما يعترض على بعض تصرفاته أو أفكاره . وإزاء هذا الوضع المحايد بين الرغبة في معرفة النصف الثاني والرغبة في التحرر منه ، يجد الـ "أنا" نفسه وهو في حالة الانتماء واللا انتماء المزدوج بينه وبين آخره وبينه ومكانه المضطرب غير المستقر ليكتسب ملامح الانتماء .. فهو في رحيل دائم على مستويين الرحيل داخل نفسه والرحيل من ارض إلى ارض عبر باخرة تعد وطنا هو الآخر غير ثابت الملامح لتبقى الرغبة في تحقيق الهوية الداخلية والخارجية تشكل قلقا وهاجسا انطولوجياً دائماً يمتد على مساحة الرواية المتكونة من تسعة فصول وكل فصل يتكون من خمس وحدات سردية يسبق كل فصل فيها عتبة، مناصة داخلية وضعت جميعها "9 عتبات" بعنوان واحد وهو "الحياة وغيرها " تضمنت فضاء داخليا وجد فيه الـ "أنا" حرية لضخ المزيد من حالات شهدت لقاءات متعددة وحوارات داخلية مع "الآخر" ليتمكن من تحقيق هويته الشخصية عبر استكمال معرفته بـ "آخره" سرديا.
وإذ تنحو الرواية صوب إثارة قضية فكرية فإنها تقترب من مهمة الرواية الحديثة التي أشارت إليها مرة ناتالي ساروت بأن " الكتابة الروائية عملية بحث دائم ، وهذا البحث يسعى إلى تعرية واقع مجهول، والى إيجاد هذا الواقع المجهول. ولتحقيق هذه المهمة المتجاوزة لموجهات الرواية التقليدية فقد اتجهت رواية "النوتي" إلى اتخاذ السبيل التجريبي من خلال تقسيم النص بنائيا إلى مناصات ،عتبات وفصول وتنفرد هذه المناصات في بث وجهات نظر الروائي كلي العلم الذي تكفل برواية كل ما جاء في النص الروائي في الحياة وغيرها على أن وجهات النظر هذه لا تخلو من إثارة الحوار الداخلي لشخصية الراوي "الأنا، الآخر" وكذلك من طرح معاناة العمل على سطح الباخرة والشعور الدائم بالانتماء واللاانتماء مثيرا بذلك وبشكل مستمر الإحساس بالقلق إزاء عدم تمكنه من تحقيق هويته وعلى الصعيدين الداخلي والخارجي. ولعل هذه التجريبية قد بررت انعتاق النص من الخطية السردية المتعارف عليها "الحكاية وتطورها الدرامي المتصاعد" واتخاذها طريقا سرديا آخر أفقياً تماهى كثيرا واتجاه الرواية التجريبي. فلم تكن الرواية بفصولها التسعة ومناصاتها التي تسبقها سوى انبعاث لقوة الماضي المشكل لشخصية الراوي مضافا اليه ما كان يجري على سطح الباخرة والمشاهدات والمغامرات التي يقوم بها البحارة عادة في الموانئ والمرافئ التي تتوقف عندها الباخرة، وكما أكدت مجريات الأحداث المتناثرة في فصول الرواية على نزوع الراوي الأدبي والذي لم يتورع عن الكشف عنه وهو شغفه باقتناء الكتب كونه كاتب روايات .ولعل الإفصاح عن نية وأمنية الراوي في نهاية النص الروائي في ان يكون كتابه الجديد هو بعنوان "النوتي" هو بمثابة الإعلان بان المادة الأولية لهذه الرواية هي الرواية التي بين أيدينا لينقل الينا كيفية تفكير الرواية في كتابة نفسها وبذا فقد دخلت الرواية الى منطقة الميتاسردي اذ يشير الراوي --وهو هنا الكاتب نفسه الى "ان ما يجذبني أكثر من لحظة تومض في طريق المستقبل الجديد " عن ماذا تتكلم؟"...هي لحظة لا تخلو من التسلية والفخر ."ما هي ؟" أفكر في رؤية البحارة يقفون صفوفا منظمة أمام باب النوتي ينتظرون كتابهم المفضل. لقد تحققت تلك اللحظة عبر كتابته لهذه الرواية التي لم تكن إلا وجهات نظر للكشف عن الكيفية التي فكرت بها والطريقة ومادتها الخام التي توافرت لها كأحداث وشخصيات وأمكنة وأزمنة متداخلة شهدتها الباخرة "تراتشي".